الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ } العَفْوُ: عفوُ الله جل وعز عن خلقه وقد يكون بعد العقوبة وقبلها، بخلاف الغُفران فإنه لا يكون معه عقوبةٌ الْبَتّةَ. وكل من ٱستحق عقوبة فتُرِكت له فقد عُفِيَ عنه. فالعفو: مَحْوُ الذنب أي محوْنا ذنوبكم وتجاوزنا عنكم. مأخوذ من قولك: عَفَتِ الريح الأثر أي أذهبته. وعفا الشيءُ: كثر. فهو من الأضداد ومنه قوله تعالى:حَتَّىٰ عَفَوْاْ } [الأعراف: 95]. الثانية: قوله تعالى: { مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } أي من بعد عبادتكم العجل. وسُمِّيَ العجل عجلاً لاستعجالهم عبادته. والله أعلم. والعجل: ولد البقرة. والعِجّول مثله، والجمع العجاجيل والأنثى عِجْلة. عن أبي الجرّاح. الثالثة: قوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } كي تشكروا عفو الله عنكم. وقد تقدّم معنى لعل. وأما الشكر فهو في اللغة الظهور من قوله: دابة شَكور إذا ظهر عليها من السَّمَن فوق ما تُعْطَى من العَلَف. وحقيقته الثناء على الإنسان بمعروف يُولِيكه. كما تقدّم في الفاتحة. قال الجوهري: الشكر: الثناء على المحسن بما أوْلاكه من المعروف يقال: شكرته وشكرت له وباللام أفصح. والشكران: خلاف الكُفران. وتشكّرت له مثل شَكَرت له. وروى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " لا يشكر الله من لا يشكر الناس " قال الخطابي: هذا الكلام يتأوّل على معنيين: أحدهما ـ أن من كان من طبعه كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله عز وجل وترك الشكر له. والوجه الآخر ـ أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذ كان العبد لا يشكر إحسان الناس إليه ويكفر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر. الرابعة: في عبارات العلماء في معنى الشكر فقال سَهْل ابن عبد اللَّه: الشكر: الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية. وقالت فرقة أخرى: الشكر هو الاعتراف في تقصير الشكر للمنعم ولذلك قال تعالى:ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } [سبأ: 13]. فقال داود: كيف أشكرك يا رب، والشكر نعمة منك! قال: الآن قد عرفتني وشكرتني إذ قد عرفت أن الشكر مني نعمة. قال: يا ربّ فأرني أخْفى نعمك عليّ. قال: يا داود تنفّس فتنفّس داود. فقال الله تعالى: مَن يُحصي هذه النعمة الليلَ والنهارَ. وقال موسى عليه السلام: كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها بيدي من نعمك لا يجازي بها عملي كله! فأوحى الله إليه: يا موسى الآن شكرتني. وقال الجُنَيْد: حقيقة الشكر العجز عن الشكر. وعنه قال: كنت بين يدي السَّرِيّ السَّقَطِيّ ألعب وأنا ٱبن سبع سنين وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر، فقال لي: يا غلام ما الشكر؟ فقلت: ألا يُعْصَى الله بنعمه. فقال لي: أخشى أن يكون حظك من الله لسانك. قال الجنيد: فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها السِريّ لي. وقال الشبليّ: الشكر: التواضع والمحافظة على الحسنات، ومخالفة الشهوات وبذل الطاعات، ومراقبة جبّار الأرض والسموات. وقال ذو النُّون المصريّ أبو الفَيْض: الشكر لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان والإفضال.