الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ }

وفيه إشراقات:

الأوّل

في الغرض المسوق إليه هذا التمثيل

إنّ الله تعالى قد مثّل الذين حُمّلوا الكتب السماويّة وكُلّفوا القيام بها والعمل بموجبها، وهم لم يحملوها حقّ حملها من أداء حقّها، ولم يتدبّروا فيها ولم ينظروا بعين الاستبصار والاعتبار، بل حفظوها بالتكرار لفظاً، ودوّنوها في الأسفار لأغراض عاجلة لهم في هذه الدار، ثمّ لم يعملوا بما فيها، بالحمار الذي يحمل أسفارا، لأنّ الحمار الذي يحمل كتب الحِكمة على ظهره، لا يشعر بما فيها، فمثَل من يحفظ الكتاب ولا يدرك أسراره ومعانيه فلا يعمل بمؤدّاه ومقتضاه، كمثَل دابّة تحمل على ظهرها الكتب - لا تعلم بما فيها -.

قال ابن عبّاس: فسواء حمل على ظهره أو جحده إذا لم يعمل به.

وعلى هذا، فمن تلا القرآن ولم يفهم معناه، وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه، فكان حَرِياً بهذا المثل، وكذا من تدبّر في إعراب إلفاظه ودقائق عربيّته ونكاته البديعيّة، وهو بمعزل عن أسرار حكمته ومقاصده الأصليّة من المعارف الإلهيّة، والعلوم الربّانيّة، وأسرار المبدأ والمعاد وعلم الروحانيّين والملائكة والشياطين، وكيفيّة الوحي والتنزيل، وعلم النفس ومعرفة الروح، وورودها إلى هذا العالم، وردّها إلى أسفل سافلين، ثمّ عودها ورجوعها إلى باريها ومبقيها إمّا راضية مرضيّة إن آمنت وعملت الصالحات، أو ناكِسة منكوسة منحوسة محجوبة مظلمة إذا جحدت وعملت السيئّات، وكيفيّة نشو الآخرة من الدنيا، وأحوال القبر والبعث والحشر والنشر، إلى غير ذلك من المعارف التي هي الغرض الأصلي من إنزال الكتاب والوحي والإلهام والخطاب.

فلمن لم يطّلع من القرآن إلاّ على تفسير الألفاظ وتبين اللغات ودقائق العربيّة والفنون الأدبيّة، وعلم الفصاحة والبيان وعلم بدائع اللسان، وهو عند نفسه انّه من علم التفسير في شيء، وانّ القرآن انّما انزل لتحصيل هذه المعارف الجزئيّة، فهو أحرى بهذا التمثيل ممّن لا خبر له أصلا، لا من إعراب الألفاظ ولا من حقائق المعاني، مع اعترافه بعجزه وقصوره.

وممن أَنشد في هذا الباب شعراً أبو سعيد الضرير حيث قال:
زوامل للأسْفار لا علم عندهم   بجيّدها، إلاّ كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري المطيُّ إذا غدا   بأسفاره إذ راح ما في الغرائر
وفي قوله: بئس مثل القوم الذين كذّبوا بآيات الله -، تنبيه بليغ على كليّة هذه القضيّة، وحقّية هذا المَثل، من غير اختصاصها بشأن اليهود الذين كذّبوا بالآيات الدالّة على إعجاز القرآن، وجلالة قدر محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل كلّ من جحد ما وراء فهمه، وأنكر ما سوى ما أخذه من معلّميه وأشياخه على غير بصيرة، أو وصل إليه من ظواهر النقول والروايات، فهو حقيق بهذا التمثيل، بالقياس إلى ما جحده وأنكره عند التحقيق.

السابقالتالي
2 3 4 5 6