الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }

هذا بيان مستأنف لحال المشركين وصفتهم عند تبليغهم الدعوة وإقامة الحجة، افتتحت بأداة التنبيه ليتأملها السامع ويتصورها في صفتها الغريبة الدالة على أعراض الحيرة والعجز ومنتهى الجهل.

يقال ثنى الثوب إذا عطف بعضه على بعض فطواه، وأثناء الثوب أطواؤه ومطاويه، وثناه عنه لواه وحوّله، وثناه عليه أطبقه وطواه ليخفيه فيه، وثنى عنانه عني أي تحول وأعرض، وثنى عطفه أي أعرض بجانبه تكبراً، ومنه في المجادل في الله بغير علم:ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [الحج: 9] والاستخفاء محاولة الخفاء ومنه:يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ } [النساء: 108] واستغشاء الثياب: التغطي بها، ومنه قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلاموَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً } [نوح: 7] وهو بمعنى ما نحن فيه { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } فسر بعضهم ثني الصدور هنا بالإعراض التام، والاستدبار للرسول عند تلاوة القرآن، وهو أبلغ من ثني العطف والجانب، وفسره آخرون بطيها على ما هو مكنون فيها من الكراهة والعداوة له صلى الله عليه وسلم، والأقرب أن يكون تصويراً لما كان يحاوله بعض الكفار ثم المنافقين عند سماع القرآن من الاستخفاء بتنكيس الرأس، وثني الصدر على البطن كما يطوى الثوب، حتى يخفى فاعله بين الجمع، خجلاً مما فيه من القرع والصداع.

فالمعنى ألا إن هؤلاء الكافرين الكارهين لدعوة التوحيد يحنون ظهورهم وينكسون رءوسهم كأنهم يحاولون طيّ صدورهم على بطونهم عند سماع القرآن، وهو معنى بليغ وواقع وأدنى إلى التعليل بقوله { لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ } أي من النبي صلى الله عليه وسلم عند تلاوته للقرآن فلا يراهم عند وقوع هذه القوارع على رءوسهم، أو ليستخفوا مما هم فيه من الشأن المظهر لخزيهم وجهلهم، المثبت لعجزهم، وهو الذي كان يتبادر إلى فهمي كلما تلوت الآية أو سمعتها قبل الاطلاع على شيء مما قيل في تفسيرها، على أنه قد يجامع ما قبله فيصدق كل منهما على فريق من الكفار.

ويناسب الأول أن يكون الاستخفاء من الله عز وجل، ورواه البخاري عن مجاهد، وروى ابن جرير وغيره عن عبد الله بن شداد قال: كان أحدهم إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره لكي لا يراه فنزلت. وعن أبي رزين قال: كان أحدهم يحني ظهره ويستغشي بثوبه، وعن عطاء الخراساني في قوله: { يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } يقول يطأطئون رءوسهم، ويحنون ظهورهم، أي ألا فليعلموا إن ثني صدورهم وتنكيس رءوسهم، ليستخفوا من الداعي لهم إلى توحيد ربهم، أو من ظهور حجته عليهم، لا يغني عنهم شيئاً من ظهور فضيحتهم، فإنهم حين يستغشون ثيابهم فيغطون بها جميع أبدانهم عند النوم في ظلمة الليل، ويخلون بخواطرهم وما يبيتون من السوء والمكر، فإن ربهم يعلم ما يسرون منها ليلا، ثم ما يعلنون نهارا.

السابقالتالي
2