الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَٰبَ ٱلسَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً }

{ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا } يعني القرآن: { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } أي: موافقاً للتوراة { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } أي: نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم، وقال العوفيّ عن ابن عباس: طمسها أن تعمى { فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ } أي: فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها جزاء على الكفر، فالفاء للتسبيب، أو ننكسها بعد الطمس فنردها إلى موضع الأقفاء، والأقفاء إلى موضعها، وقد اكتفى بذكر أشدهما، فالفاء للتعقيب.

قال الرازي: وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة، لأن ذلك يعظم الغم والحسرة { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَٰبَ ٱلسَّبْتِ } أي: أو نفعل بهم أبلغ من ذلك، وهو أن نطردهم عن الإنسانية بالمسخ الكليّ جزاءً على اعتدائهم بترك الإيمان، كما أخزينا به أوائلهم أصحاب السبت جزاء على اعتدائهم على السبت بالحيلة على الاصطياد، فمسخناهم قردة { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ } أي: ما أمر به: { مَفْعُولاً } أي: نافذاً كائناً لا محالة، هذا وفي الآية تأويل آخر، وهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه، وهو صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلالة، يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم.

قال ابن كثير: وهذا كما قال بعضهم في قوله تعالى:إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [يس: 8-9] أي: مثل هذا سوء ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى، قال مجاهد: { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } يقول: عن صراط الحق { فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ } أي: في الضلال. قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عباس والحسن نحو هذا. قال السديّ: { فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ }: فنمنعها عن الحق، نرجعها كفاراً.

قال الرازيّ: والمقصود على هذا بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات، ونظيره قوله تعالى:يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [الأنفال: 24]، تحقيق القول فيه أن الإنسان في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس، ثم إنه عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات، فقدامه عالم المعقولات، ووراءه عالم المحسوسات، فالمخذول هو الذي يرد عن قدامه إلى خلفه، كما قال تعالى في صفتهم:نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ } [السجدة: 12].

ثم قال الرازي: قال عبد الرحمن بن زيد: هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى، وتأول ذلك في إجلاء قريظة والنضير إلى الشام، فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام، كما جاؤوا منها و (طمس الوجوه) على هذا التأويل يحتمل معنيين: أحدهما: تقبيح صورتهم، يقال: طمس الله صورته، كقوله: قبح الله وجهه، والثاني: إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها، وثمة تأويل آخر، وهو: أن المراد بالوجوه الوجهاء، على أن الطمس بمعنى مطلق التغيير، أي من قبل أن نغيّر أحوال وجهائهم، فنسلب إقبالهم ووجاهتهم، ونكسوهم صغاراً وإدباراً.

السابقالتالي
2 3