الرئيسية - التفاسير


* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق


{ ذٰلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }

يعنـي جل ثناؤه بقوله: ذلك الأخبـار التـي أخبر بها عبـاده عن امرأة عمران وابنتها مريـم وزكريا، وابنه يحيـى، وسائر ما قصّ فـي الآيات من قوله:إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا } [آل عمران: 33] ثم جمع جميع ذلك تعالـى ذكره بقوله ذلك، فقال: هذه الأنبـاء من أنبـاء الغيب: أي من أخبـار الغيب. ويعنـي بـالغيب، أنها من خفـيّ أخبـار القوم التـي لـم تطلع أنت يا مـحمد علـيها ولا قومك، ولـم يعلـمها إلا قلـيـل من أحبـار أهل الكتابـين ورهبـانهم ثم أخبر تعالـى ذكره نبـيه مـحمداً صلى الله عليه وسلم أنه أوحى ذلك إلـيه حجة علـى نبوّته، وتـحقـيقاً لصدقه، وقطعاً منه به عذر منكري رسالته من كفـار أهل الكتابـين الذين يعلـمون أن مـحمداً لـم يصل إلـى علـم هذه الأنبـاء مع خفـائها ولـم يدرك معرفتها مع خمولها عند أهلها إلا بإعلام الله ذلك إياه، إذ كان معلوماً عندهم أنه مـحمداً صلى الله عليه وسلم أمي لا يكتب فـيقرأ الكتب فـيصل إلـى علـم ذلك من قِبَل الكتب، ولا صاحب أهل الكتب فـيأخذ علـمه من قِبَلهم. وأما الغيب: فمصدر من قول القائل: غاب فلان عن كذا، فهو يغيب عنه غَيْبـاً وغيبةً. وأما قوله: { نُوحِيهِ إِلَيْكَ } فإن تأويـله: ننزله إلـيك، وأصل الإيحاء: إلقاء الـموحي إلـى الـموحَى إلـيه، وذلك قد يكون بكتاب وإشارة وإيـماء وبإلهام وبرسالة، كما قال جلّ ثناؤه:وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } [النحل: 68] بـمعنى: ألقـى ذلك إلـيها فألهمها، وكما قال:وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيّينَ } [المائدة: 111] بـمعنى: ألقـيت إلـيهم علـم ذلك إلهاماً، وكما قال الراجز:
أوْحَـى لَـهَـا الـقَـرَارَ فـاسْـتَـقَـرَّتِ   
بـمعنى: ألقـى إلـيها ذلك أمراً، وكما قال جلّ ثناؤه:فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [مريم: 11] بـمعنى: فألقـى ذلك إلـيهم أيضاً، والأصل فـيه ما وصفت من إلقاء ذلك إلـيهم. وقد يكون إلقاؤه ذلك إلـيهم إيـماء، ويكون بكتاب، ومن ذلك قوله:وَإِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ } [الأنعام: 121] يـلقون إلـيهم ذلك وسوسة، وقوله:وأُوحِىَ إلىَّ هَذَا ٱلقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [الأنعام: 19]: ألقـي إلـيّ بـمـجيء جبريـل علـيه السلام به إلـيّ من عند الله عزّ وجلّ. وأما الوحي: فهو الواقع من الـموحِي إلـى الـموحَى إلـيه، ولذلك سمت العرب الـخط والكتاب وحياً، لأنه واقع فـيـما كتب ثابت فـيه، كما قال كعب بن زهير:
أتَـى العُجْمَ والآفـاقَ منهُ قَصائِدٌ   بَقِـينَ بَقاءَ الوَحْيِ فِـي الـحَجَرِ الأَصَمّ
يعنـي به الكتاب الثابت فـي الـحجر. وقد يقال فـي الكتاب خاصة إذا كتبه الكاتب وَحَى، بغير ألف، ومنه قول رؤبة:
كأنَّهُ بَعْدَ رِياح تَدْهَمَهُ   وَمُرْثَعِنَّاتِ الدُّجُونِ تَثِمُهْ
إنـجيـلُ أحْبـارٍ وَحَـى مُنَـمْنِـمُهْ   
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَـٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ }.

السابقالتالي
2 3