الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } * { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } * { خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ }

تفريع على ما تضمنه قولهفما للذين كفروا قبلك مهطعين } المعارج 36 من إرادتهم بفعلهم ذلك وقولهم إننا ندخل الجنة، الاستهزاءَ بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم وبعدَ إبطاله إجمالاً وتفصيلاً فرع عن ذلك أمر الله رسوله بتركهم للعِلم بأنهم لم يُجْدِ فيهم الهَديُ والاستدلال وأنهم مصرون على العناد والمناواة. ومعنى الأمر بالترك في قوله { فذرهم } أنه أمر بترك ما أهمّ النبي صلى الله عليه وسلم من عنادهم وإصرارهم على الكفر مع وضوح الحجج على إثبات البعث ولما كان أكبر أسباب إعراضهم وإصرارهم على كفرهم هو خوضهم ولعبهم كني به عن الإِعراض بقوله { يخوضوا ويلعبوا }. فجملة { يخوضوا } وجملة { ويلعبوا } حالان من الضمير الظاهر في قوله { فذرهم }. وتلك الحال قيد للأمر في قوله { فذرهم }. والتقدير فذر خوضهم ولعبهم ولا تحزن لعنادهم وإصرارهم. وتعدية فعل ذَرْ إلى ضميرهم من قبيل توجه الفعل إلى الذات. والمراد توجهه إلى بعض أحوالها التي لها اختصاص بذلك الفعل، مثل قوله تعالىحُرّمت عليكم الميتة } المائدة 3 أي حرم عليكم أكلُها، وقولهوأن تجمعوا بين الأختين } النساء 23 أي أن تجمعُوهما معاً في عصمة نكاحِ والاعتماد في هذا على قرينة السياق كما في الآيتين المذكورتين وقوله تعالىفذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون } في سورة الطور 45، أو على ذكر ما يدل على حالة خاصة مثل قوله يخوضوا ويلعبوا } في هذه الآية، فقد يكون المقدر مختلفاً كما في قوله تعالىإنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } المائدة 90 إذ التقدير فاجتنبوا شرب الخمر والتقامر بالميسر وعبادة الأَنصاب والاستقسام بالأزلام. وهذا الاستعمال هو المعنون في أصول الفقه بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعيان، أو إسناد التحريم والتحليل إلى الأعيان، ولوضوح دلالة ذلك على المراد لم يَعُدّه جمهور علماء الأصول من قبيل المجمل خلافاً للكرخي وبعض الشافعية. وقد يتوسل من الأمر بالترك إلى الكناية عن التحقير وقلة الاكتراث كقول كَبْشَةَ أختِ عَمرو بن معديكرب تُلْهَب أخاها عمراً للأخذ بثأر أخيه عبد الله وكان قد قتل
ودَعْ عنك عَمْراً اِنَّ عَمْراً مُسالم وهل بَطْنُ عَمرو غَيْرُ شِبْرٍ لمَطْعَم   
وما في هذه الآية من ذلك الأسلوب أي لا تكترث بهم فإنهم دون أن تصرف همتك في شأنهم مثل قوله تعالىفلا تذهب نفسك عليهم حسرات } فاطر 8. وبهذا تعلم أن قوله تعالى { فذرهم } لا علاقة له بحكم القتال، ولا هو من الموادعة ولا هو منسوخ بآيات السيف كما توهمه بعض المفسرين. والخوض الكلام الكثير، والمراد خوضهم في القرآن وشأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. واللعب الهزل والهُزْء وهو لعبهم في تلقي الدعوة الإِسلامية وخروجهم عن حدود التعقل والجِدّ في الأَمر لاستطارة رشدهم حسداً وغيظاً وحنقاً.

السابقالتالي
2