الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً }

قوله تعالى: { صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً }: مفعولٌ ثان، وهي جمع " صَدُقة " بفتحِ الصاد وضم الدال بزنة " سَمُرة " ، والمرادُ بها المَهْر، وهذه القراءةُ المشهورة، وهي لغةُ الحجاز. وقرأ قتادة: " صُدْقاتهن " بضم الصاد وإسكان الدال، جمعُ صُدْقة بزنة غُرْفة. وقرأ مجاهد وابن أبي عبلة بضمِّهما، وهي جمعُ صُدُقة بضم الصاد والدال، وهي تثقيلُ الساكنة الدالِ للإِتباع. وقرأ ابن وثاب والنخعي: " صُدُقَتَهُنَّ " بضمهما مع الإِفراد. قال الزمخشري: " وهي تثقيل " صُدْقة " كقولهم في " ظُلْمة ": " ظُلُمة ". وقد تقدم لنا خلاف: هل يجوزُ تثقيل الساكنِ المضمومِ الفاءِ؟ وقرىء: " صَدْقاتِهن " بفتح الصاد وإسكان الدال، وهي تخفيف القراءة المشهورة كقولهم في عَضُد: عََضْد.

وفي نصب " نِحْلة " أربعة أوجه، أحدُها: أنها منصوبة على المصدر والعامل فيها الفعل قبلها؛ لأن " آتُوهُنَّ " بمعنى انحِلوهُنَّ، فهي مصدرٌ على غير الصدرِ نحو: " قَعَدْت جلوساً ".

الثاني: أنها مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحال، وفي صاحب الحال ثلاثةُ احتمالات، أحدها: أنه الفاعل في " فآتُوهُنَّ " أي: فآتوهن ناحِلين. الثاني: أنه المفعولُ الأولُ وهو " النساء ". الثالث: أنه المفعولُ الثاني وهو " صدقاتهن " أي: منحولات.

الوجه الثالث: أنها مفعول من أجله؛ إذا فُسِّرت بمعنى " شِرْعة ".

الوجه الرابع: انتصابُها بإضمارِ فعلٍ بمعنى شَرَع، أي: نحل الله ذلك نِحْلة أي: شَرَعه شِرْعة وديناً.

والنِّحْلة: العَطيَّةُ عن طِيبِ نفس، والنِّحْلة: الشِّرْعة، ومنه " نِحْلة الإِسلام خير النِحَل " ، وفلان ينتحل بكذا أي: يَدِين به، والنِّحْلة: الفريضة.

قال الراغب: " والنِّحْلة والنَّحْلة: العَطِيَّةُ على سبيلِ التبرع، وهي أخصُّ من الهِبة، إذ كل هبةٍ نِحْلة من غير عكس، واشتقاقُه فيما أرى من النَّحْل نظراً إلى فِعله، فكأن " نَحَلْتُه " أعطيته عطيةَ النحل " ثم قال: " ويجوز أن تكونَ النِّحْلة أصلاً فسُمِّي النحلُ بذلك اعتباراً بفعله " وقال الزمخشري: " مِنْ نَحَله كذا: أعطاه إياه، ووهبَه له عن طيبِ نفسِه، نِحْلة ونَحْلاً، ومنه حديثُ أبي بكر رضي الله عنه: " إني كنت نَحَلْتُكِ جَدادَ عشرينَ وَسْقاً ".

قوله: " منه " في محل جر، لأنه صفة لـ " شيء " فيتعلق بمحذوف أي: عن شيء كائنٍ منه. و " مِنْ " فيها وجهان، أحدهما: أنها للتبعيض، ولذلك لا يجوز لها أن تَهَبَهُ كلَّ الصَّداق. وإليه ذهب الليث. والثاني: أنها للبيان، ولذلك يجوزُ أن تَهَبَه كل الصَّداق. قال ابن عطية: " و " مِنْ " لبيان الجنس ههنا، ولذلك يجوز أن تَهَبَ المهر كله، ولو وقعت على التبعيض لما جاز ذلك ".

السابقالتالي
2 3 4 5