الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } * { ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً }

استئناف لزيادة بيان مساواة النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في إباحة تزوج مطلقة دعيّه وبيان أن ذلك لا يخل بصفة النبوة لأن تناول المباحات من سنة الأنبياء، قال تعالىيا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً } المؤمنون 51، وأن النبي إذا رام الانتفاع بمباح لميل نفسه إليه ينبغي له أن يتناوله لئلا يجاهد نفسه فيما لم يؤمر بمجاهدة النفس فيه، لأن الأليق به أن يستبقي عزيمته ومجاهدته لدفع ما أمر بتجنبه. وفي هذا الاستئناف ابتداء لنقض أقوال المنافقين أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة ابنه. ومعنى { فرض الله له } قدّره، إذْ أَذِنَه بفعله. وتعدية فعل { فرض } باللام تدل على هذا المعنى بخلاف تعديته بحرف على كقولهقد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم } الأحزاب 50. والسُّنَّة السيرة من عمل أو خُلق يلازمه صاحبه. ومضى القول في هل السنة اسم جامد أو اسم مصدر عند قوله تعالىقد خلت من قبلكم سنن } في سورة آل عمران 137، وعلى الأول فانتصاب { سنة الله } هنا على أنه اسم وضع في موضع المصدر لدلالته على معنى فعل ومصدر. قال في «الكشاف» كقولهم تُرباً وجندَلاً، أي في الدعاء، أي تَرب تُرباً. وأصله تُرْب له وجندَلٌ له. وجاء على مراعاة الأصل قول المعري
تمنتْ قُوَيْقاً والسراة حِيالها تُرَابٌ لها من أَينق وجِمال   
ساقه مساق التعجب المشوب بغضب. وعلى الثاني فانتصاب { سنة } على المفعول المطلق، وعلى كلا الوجهين فالفعل مقدّر دل عليه المصدر أو نائبه. فالتقدير سَنّ الله سنته في الذين خلوا من قبل. والمعنى أن محمداً صلى الله عليه وسلم متَّبع سُنَّة الأنبياء الذين سبقوه اتباعاً لما فرض الله له كما فرض لهم، أي أباح. والمراد بــــ { الذين خلوا } الأنبياء بقرينة سياق لفظ النبي، أي الذين خلوا من قبل النبوة، وقد زاده بياناً قوله { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه } ، فالأنبياء كانوا متزوجين وكان لكثير منهم عدة أزواج، وكان بعض أزواجهم أحب إليهم من بعضهن. فإن وقفنا عند ما جاء في هذه الآية وما بيّنته الآثار الصحيحة فالعبرة بأحوال جميع الأنبياء. وإن تلقَّيْنا بشيء من الإغضاء بعضَ الآثار الضعيفة التي أُلصِقت بقصة تزوج زينب كان داود عليه السلام عبرة بالخصوص فقد كانت له زوجات كثيرات وكان قد أحب أن يتزوج زَوجة أوريا وهي التي ضرب الله لها مثلاً بالخصم الذين تسَوّرُوا المحراب وتشاكوا بين يديه. وستأتي في سورة ص، وقد ذكرت القصة في «سفر الملوك». ومحلّ التمثيل بداود في أصل انصراف رغبته إلى امرأة لم تكن حلالاً له فصارت حلالاً له، وليس محلّ التمثيل فيما حَفّ بقصة داود من لوم الله إياه على ذلك كما قال

السابقالتالي
2 3