الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } * { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ } * { أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ }

فرع استفهام إنكاري وتعجيبي من تجمع المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستهزئين بما يسمعون من وعد المؤمنين بالجنة ووعيد المشركين بعذاب جهنم. فرع ذلك على ما أفاده في قولهأولئك في جنات مكرمون } المعارج 35. والمعنى أن الذين كفروا لا مطمع لهم في دخول الجنة فماذا يحاولون بتجمعهم حولك بملامح استهزائهم. وهذا وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم فالمقصود به إبلاغه إليهم فيما يتلو عليهم من القرآن فهو موجه إليهم في المعنى كما يدل عليه تنهيته بحرف الردع فهو لا يناسب أن يكون إعلاماً للنبي صلى الله عليه وسلم لذلك لأنه شيء مقرر في علمه. ومعنى { فما للذين كفروا } أيُّ شيء ثبت للذين كفروا في حال كونهم عندك، أو في حال إهطاعهم إليك. وقد تقدم عند قوله تعالىقالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أُخرجنا من ديارنا } في سورة البقرة 246. وتركيب ما لَه لا يخلو من حال مفردة، أو جملة بعد الاستفهام تكون هي مصبَّ الاستفهام. فيجوز أن تكون الحال المتوجه إليها الاستفهام هنا الظرف، أي { قِبَلَك } فيكون ظرفاً مستقراً وصاحب الحال هو { للذين كفروا }. ويجوز أن تكون { مهطعين } ، فيكون { قِبَلَك } ظرفاً لغْواً متعلقاً بـ { مهطعين }. وعلى كلا الوجهين هما مثار التعجيب من حالهم فأيهما جعل محل التعجيب أجري الآخَر المُجرى اللائق به في التركيب. وكتب في المصحف اللام الداخلة على { الذين } مفصولة عن مدخولها وهو رسم نادر. والإِهطاع مد العنق عند السير كما تقدم في قوله تعالىمهطعين إلى الداع } في سورة القمر 8. قال الواحدي والبغوي وابن عطية وصاحب الكشاف كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه ويكذبونه ويستهزئون بالمؤمنين، ويقولون لئن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم. فأنزل الله هذه الآية. وقِبَل اسم بمعنى عند. وتقديم الظرف على { مهطعين } للاهتمام به لأن التعجيب من حالهم في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أقوى لما فيهم من الوقاحة. وموقع قوله { عن اليمين وعن الشمال } مثل موقع { قبلك } وموقع { مهطعين }. والمقصود كثرة الجهات، أي واردين إليك. والتعريف في { اليمين } و { الشمال } تعريف الجنس أو الألف واللام عوض عن المضاف إليه. والمقصود من ذكر اليمين والشمال الإِحاطة بالجهات فاكتفي بذكر اليمين والشمال، لأنهما الجهتان اللتان يغلب حلولهما، ومثله قول قَطَريّ بن الفُجَاءَةِ
فلقد أراني للرماح دَريئَةً مِن عَنْ يميني مَرّة وأَمامي   
يريد من كل جهة. و { عزِين } حال من { الذين كفروا }. و { عزين } جمع عِزَة بتخفيف الزاي، وهي الفِرقة من النّاس، اسم بوزن فِعْلَة. وأصله عِزوة بوزن كِسوة، وليست بوزن عِدَة.

السابقالتالي
2