الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

{ فَتَقَبَّلَهَا } أي أخذ مريمَ ورضيَ بها في النذر مكانَ الذكَر { رَبُّهَا } مالكها ومُبلِّغها إلى كمالها اللائق بها وفيه من تشريفَها ما لا يخفى { بِقَبُولٍ حَسَنٍ } قيل: الباء زائدة والقَبول مصدرٌ مؤكِّد للفعل السابق بحذف الزوائد أي تقبّلها قبولاً حسناً وإنما عدَلَ عن الظاهر للإيذان بمقارنة التقبُّل لكمال الرضا وموافقته للعناية الذاتية فإن صيغة التفعُّل مُشعِرةٌ بحسب أصل الوضعِ بالتكليف، وكونِ الفعل على خلاف طبع الفاعل وإن كان المرادُ بها في حقه تعالى ما يترتب عليه من كمال قوةِ الفعل وكثرتِه وقيل: القبولُ ما يقبل به الشيء كالسَّعوط واللَّدود لما يُسعَط به ويلُدّ، وهو اختصاصُه تعالى إياها بإقامتها مُقام الذكَر في النَّذر، ولم تُقبلْ قبلها أنثى أو بأنْ تُسلِّمها أمُّها عَقيبَ الولادة قبل أن تنشأ وتصلُحَ للسِّدانة. روي أن حنة حين ولدتها، لفّتها في خرقة، وحملتْها إلى بـيت المقدس، ووضعتها عند الأحبار أبناءِ هارونَ وهم في بـيت المقدس كالحَجَبة في الكعبة فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنتَ إمامِهم، وصاحبِ قُربانهم، فإن بني ماثانَ كانت رؤوسَ بني إسرائيلَ وملوكَهم، وقيل: لأنهم وجدوا أمرَها وأمرَ عيسى عليه الصلاة والسلام في الكتب الإلٰهية فقال زكريا عليه الصلاة والسلام: «أنا أحقُّ بها لأن عندي خالتَها» فأبوا إلا القُرْعةَ، وكانوا سبعةً وعشرين، فانطلقوا إلى نهر فألقَوْا فيه أقلامَهم فطفا قلمُ زكريا ورسبَتْ أقلامُهم فتكفلها. وقيل: هو مصدر وفيه مضافٌ مقدرٌ أي فتقبلها بذي قبولٍ أي بأمرٍ ذي قَبول حسن، وقيل: تقبّل بمعنى استقبل كتقصَّى بمعنى استقصىٰ وتعجَّل بمعنى استعجل أي استقبلها في أول أمرِها حين وُلدت بقبول حسن { وَأَنبَتَهَا } مجازٌ عن تربـيتها بما يُصلِحها في جميع أحوالها { نَبَاتًا حَسَنًا } مصدر مؤكّدٌ للفعل المذكور بحذف الزوائد وقيل: بل لفعل مُضمر موافقٍ له تقديرُه فنبتت نباتاً حسناً { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } أي جعله عليه الصلاة والسلام كافلاً لها وضامناً لمصالحها قائماً بتدبـير أمورِها لا على طريقة الوحي بل على ما ذُكر من التفصيل فإن رغبتَه عليه الصلاة والسلام في كفالتها وطُفوَّ قلمِه ورسوبَ أقلامِهم وغيرَ ذلك من الأمور الجارية بـينهم كلُّها من آثار قدرته تعالى، وقرىء أَكفلَها وقرىء زكرياءَ بالنصب والمد وقرىء بتخفيف الفاء وكسرِها ورفع زكرياءُ ممدوداً وقرىء وتقبَّلْها ربَّها وأنبِتْها وكفَّلْها على صيغة الأمر في الكل ونصبِ ربها على الدعاء أي فاقبلها يا ربها وربِّها تربـيةً حسنةً واجعلْ زكريا كافلاً لها فهو تعيـينٌ لجهة التربـية. قيل: بنىٰ عليه الصلاة والسلام لها مِحْراباً في المسجد أي غرفةً يُصعد إليها بسُلّم وقيل: المحرابُ أشرفُ المجالس ومُقدَّمُها كأنها وضعت في أشرف موضعٍ من بـيت المقدس وقيل: كانت مساجدُهم تسمى المحاريب.

السابقالتالي
2