الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ } * { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }

قوله تعالى: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا } نصب بما بعده. وقدم إما لأنه استفهام، وإما لأن " كم " الخبرية تَجْرِي مَجْرَى الاستفهامية في التصدير. و " مِنْ قَرْنٍ " تمييز و " هُمْ أَشَدُّ " صفة إما " لكَمْ " وإما لِقَرنْ.

قوله: " فَنَقَّبُوا " الفاء عاطفة على المعنى كأنه قيل: اشتدَّ بطشهم فَنَقَّبُوا والضمير في (نَقَّبُوا) إما للقرون المتقدمة وهو الظاهر وإما لقُرَيْشٍ، ويؤيده قراءة ابن عباس - (رضي الله عنهما) - وابن يَعْمُرَ، وأَبِي العَالِيَة، ونَصْرِ بن يَسَار، وأبي حيوة، والأصمعي - عن أبي عمرو - (رضي الله عنهم) فَنَقِّبُوا - بكسر القاف - أمراً لهم بذلك.

والتَّنْقِيبُ التَّنْقِيرُ والتّفتيش، ومعناه التَّطْوَافُ في البلاد، قال الحارثُ بنُ حِلِّزَةَ:
4514- نَقَّبُوا فِي الْبِلاَدِ مِنْ حَذَرِ الْمَو   تِ وَجَالُوا فِي الأَرْضِ كُلَّ مَجَالِ
وقال امرؤ القيس:
4515- وَقَدْ نَقَّبْتُ فِي الآفَاقِ حَتَّى   رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالإيَابِ
وقرأ ابنُ عَباسٍ وأبو عمرو أيضاً في رواية: نَقَبُوا بفتح القاف خفيفة. ومعناها كما تقدم. وقرىء: نَقِبُوا بكسرها خفيفة أي نَقِبَتْ أقدامُهُمْ وَأَقْدَام إبلهم ودَمِيَتْ فحذف المضاف، وذلك لكثرة تَطْوَافِهِمْ.

قوله: { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } مبتدأ أو خبر مضمر تقديره: هل لمن سلك طريقهم. أو هل لهم من محيص. وهذه الجملة يحتمل أن تكون على إضمار قولٍ وأن لا تكون.

فصل

المعنى فَنَقَّبُوا أي فضربوا وسافروا وتقلبوا، وأصله من النَّقب وهو الطريق كأنهم سلكوا كُلَّ طريق، فلم يجدوا محيصاً من أمر الله. وعلى هذا فالمراد بهم أهل مكة، أي ساروا في الأسفار ورأوا ما فيها من الآثار ولم يجدوا ملجأ ومهرباً.

وقيل: المعنى صاروا نُقَبَاء في الأرض أراد ما أفادهم بَطْشُهُم وقُوَّتُهُم؛ لأن الفاء تدل على ترتيب الأمر على مقتضاه تقول: كانَ زَيْدٌ أَقوى من عَمْرٍو فَغَلَبَهُ. والمعنى كانوا أشدَّ منهم بطشاً فصاروا نقباءَ في الأَرْضِ، وهم قوم ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، ومن قوتهم خَرَقُوا الطُّرق ونَقَّبُوها وقَطَعُوا الصُّخُورَ.

وقيل: { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } مفر من الموت، فلم يجدوا. وهذا جمع بين الإنْذارِ بالعذاب العاجل والعقاب الآجل؛ لأنه أنذرهم بما يعجل لهم من العذاب المُهْلِك، والإهلاك المُدْرك. وهذا إنذار لأهل مكة لأنهم على مثل سَبِيلهم.

فإن قيل: إذا كان (ذلك للجمع) بين الإنذار بالعذاب العاجل والعقاب الآجل فَلِمَ توسَّطَهُمَا قوله تعالى:وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ق: 31]؟

فالجواب: ليكون ذلك رَدْعاً بالخوف والطمع، فذكر حال الكفور (المعاند)، وحال الشكور ترهيباً وترغيباً.

فإن قيل: لِمَ لَمْ يجمع بين التَّرْهيب والترغيب في العاجلة كما جمع بينهما في الآجلة ولم يذكر حال من أسْلَمَ من قبل وأنعم عليه كما ذكر حال من أشرك به وأهلكه؟

فالجواب: أن النعمة كانت قد وصلت إليهم، وكانوا مُتَقَلِّبين في النِّعم فلم يُذَكِّرْهم به، وإنما كانوا غافلين عن الهلاك فأنذرهم به وأما في الآخرة فكانوا غافلين عن الأمْرين جميعاً فأخبرهم بها.

السابقالتالي
2