الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } * { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ }

قوله تعالى: { هَـٰذَا.. } [ق: 32] إشارة إلى ما تقدَّم من تقريب الجنة للمتقين { مَا تُوعَدُونَ.. } [ق: 32] أي: وعد الله به { لِكُلِّ أَوَّابٍ } [ق: 32] أوَّاب صيغة مبالغة نقول: آيب وأوَّاب يعني كثير الأوْب والرجوع إلى الله إنْ حصلت منه معصية، فسرعان ما يندم عليها ويتوب. والحق سبحانه وتعالى شرح لنا هذا المعنى في قوله تعالى:إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ.. } [النساء: 17] يعني: لا يسعوْنَ إليها ولا يرتبون لها.ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ.. } [النساء: 17-18]. والأوَّاب كثير الرجوع إلى الله بالتوبة، لا يعني أنه كثير الخطايا، إنما إنْ حدثت منه غفلة عن الطاعة سارع بالتوبة، لأن الذي يرجع في توبته من الذنب ثم يعود إليه وتتكرر منه هذه، فقد شبَّهه رسول الله بالمستهزئ بربه، وهذه صفة لا تليق بالأوَّاب. ومعنى: { حَفِيظٍ } [ق: 32] هي أيضاً صيغة مبالغة من حافظ، والحفيظ هو كثير الحفظ لحدود الله وحُرمات الله، يحفظ نفسه من الوقوع في المعصية، بل يحفظ نفسه من الاقتراب منها. وهذا هو معنى الحديث الشريف: " احفظ الله يحفظك " وحِفْظ الله يكون بحفظ حدوده والوقوف عند أوامره ونواهيه. ومن صفات المتقين الذين وعدهم الله هذا الوعد { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } [ق: 33] الخشية معناها الخوف وهو على نوعين: تخاف وأنت تكره مَنْ تخافه وتلعنه لأنه أقوى منك، أو لأنه يذلُّك ويقهرك، فأنت تخافه وتحتقره، وهذا خوف العباد من العباد. وهناك خوف بحب وهيبة وإجلال على حَدِّ قول الشاعر:
أخافك إجلالاً وما بك قدرة   عليَّ ولكن مِلْءُ عين حبيبها
فأنت تحب مَن تخافه، وتعلم أن له جميلاً عندك، وأنك لا تستطيع أنْ تُوفيه حقه، وهذا هو الخوف من الله. ويساعدنا على فهْم هذا المعنى قول الله تعالى:أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ.. } [فاطر: 27-28]. الحق سبحانه هنا لم يأت بحكم شرعي يلزمنا به أو يُخوِّفنا من التهاون فيه، إنما تحدث عن آيات كوْنِه، أرادنا أنْ نبحث فيها ونتأملها، وأنْ نُنقب عن أسرارها وما فيها من جمال. فكلما نظرنا في آيات الكون من حولنا ازددنا لله خشية، ومهابة وإجلالاً لعظمته ونعمته علينا، والعلماء هم أوْلَى الناس بهذا النظر، وأقرب الناس إلى خشية الله وتقديره حَقَّ قَدْره.

السابقالتالي
2