الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى ٱلأَرَآئِكِ نِعْمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً }

الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأن ما أجمل من عدم إضاعة أجرهم يستشرف بالسامع إلى ترقب ما يبين هذا الأجر. وافتتاح الجملة باسم الإشارة لما فيه من التنبيه على أن المشار إليهم جديرون لما بعد اسم الإشارة لأجل الأوصاف المذكورة قبل اسممِ الإشارة، وهي كونهم آمنوا وعملوا الصالحات. واللام في { لهم جنات عدن } لام الملك. و من للابتداء، جعلت جهة تحتهم مَنْشأ لجري الأنهار. وتقدم شبيه هذه الآية في قوله تعالىوعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } في سورة براءة 72. و { عدن } تقدم في قوله تعالىومساكن طيبة في جنات عدن } في سورة براءة 72. و { من تحتهم } ، بمنزلة { من تحتها } لأنّ تحت جناتهم هو تحتٌ لهم. ووجه إيثار إضافة تحت إلى ضميرهم دون ضمير الجنات زيادة تقرير المعنى الذي أفادته لام الملك، فاجتمع في هذا الخبر عدة مقرارات لمضمونه، وهي التأكيد مرتين، وذكرُ اسم الإشارة. ولام الملك، وجر اسم الجهة بــــ مِن، وإضافة اسم الجهة إلى ضميرهم، والمقصود من ذلك التعريض بإغاظة المشركين لتتقرر بشارة المؤمنين أتَمّ تقرر. وجملة { يحلون } في موضع الصفة «لجنات عدن». والتحلية التزيين، والحلية الزينة. وأسند الفعل إلى المجهول، لأنهم يجدون أنفسهم محلَّين بتكوين الله تعالى. والأساور جمع سِوار على غير قياس. وقيل أصله جمع أسورة الذي هو جمع سِوار. فصيغة جَمع الجمع للإشارة إلى اختلاف أشكال ما يحلون به منها، فإن الحلية تكون مرصعة بأصناف اليواقيت. و مِن في قوله { من أساور } مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش، وسيأتي وجهه في سورة الحج. ويجوز أن تكون للابتداء، وهو متعين عند الذين يمنعون زيادتها في الإثبات. والسِوار حلي من ذهب أو فضة يُحيط بموضع من الذراع، وهو اسم معرب عن الفارسية عند المحققين وهو في الفارسية دستوارَه بهاء في آخره كما في «كتاب الراغب»، وكُتب بدون هاء في «تاج العروس». وأما قوله { من ذهب } فإن من فيه للبيان، وفي الكلام اكتفاء، أي من ذهب وفضة كما اكتفي في آية سورة الإنسان بذكر الفضة عن ذكر الذهب بقولهوحلوا أساور من فضة } الإنسان 21، ولكل من المعدنين جماله الخاص. واللِباس ستر البدن بثوب من قميص أو إزار أو رداء، وجميع ذلك للوقاية من الحر والبرد وللتجمل. والثياب جمع ثوب، وهو الشقة من النسيج. واللون الأخضر أعدل الألوان وأنفعها عند البصر، وكان من شعار الملوك. قال النابغة
يصونون أجساداً قديماً نعيمُها بخالصة الأردان خُضْرِ المناكب   
والسندس صنف من الثياب، وهو الديباج الرقيق يلبس مباشراً للجلد ليقيه غلظ الإستبرق. والإستبرق الديباج الغليظ المنسوج بخيوط الذهب، يلبس فوق الثياب المباشرة للجلد. وكلا اللفظين معرب. فأما لفظ سندس فلا خلاف في أنه معرب وإنما اختلفوا في أصله، فقال جماعة أصله فارسي، وقال المحققون أصله هندي وهو في اللغة الهندية سَنْدُون بنون في آخره.

السابقالتالي
2