الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يٰرَبِّ إِنَّ قَوْمِي ٱتَّخَذُواْ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ مَهْجُوراً }

معنى هذه الآية الكريمة ظاهر، وهو أن نبينا صلى الله عليه وسلم شكا إلى ربه هجر قومه، وهم كفار قريش لهذا القرآن العظيم أي تركهم لتصديقه، والعمل به وهذه شكوى عظيمة، وفيها أعظم تخويف لمن هجر هذا القرآن العظيم، فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام والآداب والمكارم، ولم يعتقد ما فيه من العقائد، ويعتبر بما فيه من الزواجر والقصص والأمثال.

واعلم أن السبكي قال إنه استنبط من هذه الآية الكريمة من سورة الفرقان مسألة أصولية، وهي أن الكف عن الفعل فعل. والمراد بالكف الترك، قال في طبقاته: لقد وقفت على ثلاثة أدلة تدل على أن الكف فعل لم أر أحداً عثر عليها.

أحدها: قوله تعالى: { وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يٰرَبِّ إِنَّ قَوْمِي ٱتَّخَذُواْ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ مَهْجُوراً } فإن الأخذ التناول والمهجور المتروك، فصار المعنى تناولوه متروكاً أي: فعلوا تركه. انتهى محل الغرض منه بواسطة نقل صاحب نشر البنود، شرح مراقي السعود في الكلام على قوله:
فكفنا بالنهي مطلوب النبي   
قال مقيده عفا الله وغفر له: استنباط السبكي من هذه الآية أن الكف فعل وتفسيره لها بما يدل على ذلك، ولم يظهر لي كل الظهور، ولكن هذا المعنى الذي زعم أن هذه الآية الكريمة دلت عليه، وهو كون الكف فعلاً دلت عليه آيتان كريمتان من سورة المائدة، دلالة واضحة لا لبس فيها، ولا نزاع. فعلى تقدير صحة ما فهمه السبكي من آية الفرقان هذه فإنه قد بينته بإيضاح الآيتان المذكورتان من سورة المائدة. أما الأولى منهما فهي قوله تعالى:لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ ٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ٱلإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [المائدة: 63] فترك الربانيين والأحبار نهيهم عن قول الإثم وأكل السحت سماه الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة صنعاً في قوله:لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [المائدة: 63]. أي وهو تركهم النهي المذكور، والصنع أخص من مطلق الفعل، فصراحة دلالة هذه الآية الكريمة على أن الترك فعل في غاية الوضوح كما ترى.

وأما الآية الثانية فهي قوله تعالى:كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [المائدة: 79] فقد سمى جل وعلا في هذه الآية الكريمة: تركهم التناهي، عن المنكر فعلاً، وأنشأ له الذم بلفظة بئس التي هي فعل جامد لإنشاء الذم في قوله:لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلون } [المائدة: 79] أي وهو تركهم التناهي، عن كل منكر فعلوه، وصراحة دلالة هذه الآية أيضاً على ما ذكر واضحة كما ترى.

وقد دلت أحاديث نبوية على ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " فقد سمى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ترك أذى المسلمين إسلاماً، ومما يدل من كلام العرب على أن الترك فعل قول بعض الصحابة في وقت بنائه صلى الله عليه وسلم لمسجده بالمدينة:

السابقالتالي
2 3