الرئيسية - التفاسير


* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }

{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } ما غابَ عن الابصار منكشفا بنعت الانوار لعيون الاسرار والايمان بالغيب هو تفرس الرّوح بنور اليقين ومشاهدة الحق سبحانه وتعالى والايمان بالغيب شوق القلب الى لقاء الربّ وايضاً الايمان تصديق السّرّ ما أبصرت الرّوح من مكنون حقائق الغيب بنعت مباشرَة حلاوة انكشاف نور الحق في صميم سرّ السّر واتصال بروقه بَطنان القلب وتعريفه اوصاف صفات الحق عقل الكل وايضا الايمان تصديق القلب بوجدان الرّوح رؤية الربّ جلّ وعلا والمؤمنون هم الذين صدقوا مواعيد الغيوب بعد إدراكهم مواجيد قلوبهم من رؤيتها ومواجيدُ قلوبهم لا يكون الا من رؤية ابصار بصائرهم انوار غيب الغيب وترائى الغيب لا يكون لروح الناطقة الا بعد ان يؤيدهَا الحق بتبيين البرَاهين واستكشافه حقائق الاستدلال بشهود الحال رؤية المدلول واستحكام انوار البصيرة فاذا كَمُلت هذه الاوصاف للرّوح ابْصَرَت صفاء صحارى الغيب وتمكّنت تحتَ ركوم انوار اليقين وسناء قدس الحق بنعت بروزه في لباس حق اليقين وحقيقة حق اليقين لا تحصل بالتحقيق الا بعد انسلاخ السّر عن الاستشهاد والاستدلال فاذا فرغ منها اوصله التاييد الى مراتب الكشوف وايضاح الفرقان واورده صدق تحقيق رؤية الغيب ساحات استبصار عيون النفوس واستغناه بما آنَس من عجائب جلال المشهود من سَيرانه في عالم الشواهِدِ واذا عاين مكشوفات الغيب ببصر العرفان دَخَل في سُجوفِ ايواءِ عزّ الحقّ واغناءِ الحقَّ بلوائِح البيان عن طلب المشاهدة بالفكر في الحدثانِ وتَطلع لَه شموسُ اسرار انوارِ القِدَمِ وتَخْلصُهُ بجمالِها عن اقتباس مصابيح البراهين واذا بَرَق السّرّ بهذِه المعانى اشرق له حق الغيب بأوصافه فصار السّرُّ والغيب متّحداً ويكون السّر غيباً بعينه والغيبُ سرّا بعينه فيُغَيَّبُ السّر في الغيب والغيب في السّر وتحصيل هذا العلم ان الغيبَ يصيرُ اهلاً للسّر لا يحوى فوءهُ ابداً وصاحبه في كل حالٍ شاهداً لمشاهدة يرى في جميع الانفاس عالم الملكوتِ وعالم الجبروت وهذا صفةُ قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم وقال الشبلى لما صَفَتْ ارواحُهُمْ وشَرفَتْ همومهم اشرفوا على اسرار الغيب بعظم أمانَتهِم وقال بعضهم الّذين تُصدِّق نفُوسُهُم ارواحَهم بما ادَّت اليهم من خبر ما شاهدته قلوبُهم بما غيب عن نفوسهم وقال ابو بكر بن ظاهرٍ اشار الحقُّ الى اخلاص عباده المخلصِين باَنّهم بذلوا لمحبوبهم قلوبهم بالايمان بالغيب وبَذَلوا له نفوسَهُم بالخدمة والعبودية بقوله { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } وبذلوا ما ملَّكهم فلم يبخلُوا عليه بشئ من ذلك علماً بانّها عوارٍ في ايديهم وهو تعالى المالكُ لها ولهم على الحقيقة بقوله { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وقال الواسطى أمنوا بالغيب ولما عاينوا الحق في القيامة علموا حقيقية انّ ما امنوا به بعيدٌ ما شاهَدُوا وقال بعضهم الله غيب وهو مُغيب الغَيْب والقلبُ غيبٌ فاذا أمن الغيبُ بالغيب رفع الحجابُ عن الغيب فوجد في الغيب الغيب صاحب الغيب وذلك قوله { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } وقال بعضهم الذين يقضون بالغيب في الغيب للغيب وقال الاستاذ حقيقة الايمان التصديق ثم التحقيق وموجب الامرين التوفيق فالتصديق بالعقد والتحقيق ببذل الجهد في حفظ العهد وفرسان اهلِ الغيب خمس طوائف النفوس والارواح والعقول والقلوب والاسرار ومشاربهم متفاوتة فمشرب صرف بلا مزاجٍ ومشربٌ عذب بلا اجاج ومشرب ملح ومشرب رايق ومشرب سايق ومشرب زنجيل المحبة ومشرب سلسبيل المعرفة ومشرب تسنيم المشاهدة ومشرب عين المكاشفة وقائدُ التوفيق يقود طائفة السَّعَادة الى مناهل القرية وسائِقُ الخذلان يَسُوق طائفة الشقاوة الى موارد الشهود وموارد النفوس الَّتي تَرُدّها هى اسُنّ المنى واحَسَنُ الهوىَ ومناهل الشهوات سواحِل نهر الغفلات ومشارب الارواح الَّتى تَرُدّها هِىَ سواقى المشاهدات والمكاشفات وعيون القلوب التي تَرُدُّها هي صفاء المعاملات وانوارُ المناجاة والانهار التي ترُدّها العقول هى مشاهدة والربوبيّة وادراك نور القربة من مرآة الآيات والينابيع التي ترُدّهَا الاسرار هي عجائب كشوف جمال القِدَمِ وشهودها مشهد التّوحيد وحقائق حق الربوبيّة ومطالع شموسِ الصفات ومشارق اقمار انوارِ الذات فالزّهاد اصحاب العقول ومَشْرَبُهُم الطاعات والعبادات والمحبوبون هم اصحاب القلوب ومشربهُمُ الوجود والحالات والعارفون هم اصحاب الارواح ومشربهم المراقبات والانس والخلوات والموجّدون هم اصحاب الاسرار ومشربهُم التفرّد عن الاكوان والتجّرد عن الحدثان والبطالون هم اصحاب النفوس ومشربهم الدَّعاوى والاباطيل والترهات والمزخرفات وقيل الغيب هو الله تعالى وقال بعض العراقين الغيبُ هو مشاهدة الكلّ بعين الحقّ وقال ابو يزيد لا يؤمن بالغيب من لم يكن معه سراج من الغيب { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ } يراقِبون اوقاتَ الصّلاة لاستنشاقِ نفخات الصفات واقامة الصلاة حفظ أداب العبوديّة في جناب الربوبيّة بنعت الافتقار الى مشاهَدة الملك الجبار لان في الصّلاة قرّة عيون العارفين ومناجاة المحبين ومشاهدة الحق للشائقين وقال ابن عطاء اقامة الصلاة حفظ حدودها مع حفظ السرّ مع الله ان لا يختلج بسره سواه { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } اي يطلبَوُن قرب الرزّاق بخروجهم عن الارزاق واينما يتقربون اليه بما نالوا منه وايضاً يتخلَّقون بخلقه في الاكرام والاعطاء وايضاً يتحدّثون بما وَجَدُوا من انوار الكواشف وكرائم المعارف عند السّالكين الصّادقين وقيل في الامسَاك لذة وفي الانفاق لذة وكلُّ ما يَلذ فهو بعيدٌ من عَين الحق وقيل ينفقون مما خصصناهم به من انوار المعرفة يفيضون بركاتها ونورها على مَنْ تَبِعهُم.