الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }

هذا تكرير ثالث لفعل { قل } من قولهقل هو الذي أنشأكم } الملك 23 الآية. وجاء هذا الأمر بقول يقوله لهم بمناسبة قولهأو رحمنا } الملك 28 فإنه بعد أن سوَّى بين فرض إهلاك المسلمين وإحيائهم في أن أيّ الحالين فُرض لا يجيرهم معه أحد من العذاب، أعقبه بأن المسلمين آمنوا بالرحمان، فهم مظنة أن تتعلق بهم هذه الصفة فيرحمهم الله في الدنيا والآخرة، فيعلم المشركون علم اليقين أيّ الفريقين في ضلال حين يرون أثر الرحمة على المسلمين وانتفاءه عن المشركين في الدنيا وخاصة في الآخرة. وضميرُ { هو } عائد إلى الله تعالى الواقع في الجملة قبله، أي الله هو الذي وَصْفُه { الرحمان } فهو يرحمنا، وأنكم أنكرتم هذا الاسم فأنتم أحرياء بأن تُحرَموا آثار رحمته. ونحن توكلنا عليه دون غيره وأنتم غرّكم عزّكم وجعلتم الأصنام معتمدكم ووكلاءكم. وبهذه التوطئة يقع الإيماء إلى الجانب المهتدي والجانب الضالّ من قوله { فستعلمون من هو في ضلال مبين } لأنه يظهر بَادِىء تأمل أن الذين في ضلال مبين هم الذين جحدوا وصف { الرحمان } وتوكلوا على الأوثان. و { مَن } موصولة، وما صْدَقُ { مَن } فريق مُبهم متردد بين فريقين تضمنهما قولهإن أهلكني الله ومَن معي } الملك 28 وقولهفمن يجير الكافرين } الملك 28، فأحد الفريقين فريق النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، والآخر فريق الكافرين، أي فستعلمون اتضاح الفريق الذي هو في ضلال مبين. وتقديم معمول { توكلنا } عليه لإفادة الاختصاص، أي توكلنا عليه دون غيره تعريضاً بمخالفة حال المشركين إذ توكلوا على أصنامهم وأشركوها في التوكل مع الله، أو نَسُوا التوكل على الله باشتغال فكرتهم بالتوجه إلى الأصنام. وإنما لم يقدم معمول { آمنَّا } عليه فلم يقل به آمنا لمُجرد الاهتمام إلى الإِخبار عن إيمانهم بالله لوقوعه عقب وصف الآخرين بالكفر في قولهفمن يجير الكافرين من عذاب أليم } الملك 28 فإن هذا جواب آخر عن تمنّيهم له الهلاك سُلك به طريق التبكيت، أي هو الرحمان يجيرنا من سوء ترومونه لنا لأننا آمنا به ولم نكْفر به كما كفرتم، فلم يكن المقصود في إيراده نفي الإِشراك وإثبات التوحيد، إذ الكلام في الإِهلاك والإنجاء المعبّر عنه بـرَحِمنَا } الملك 28 فجيء بجملة { ءامنا } على أصل مجرد معناها دون قصد الاختصاص، بخلاف قوله { وعليه توكلنا } لأن التوكل يقتضي منجياً وناصراً، والمشركون متوكلون على أصنامهم وقوتهم وأموالهم، فقيل نحن لا نتكل على ما أنتم متكلون عليه، بل على الرحمان وحده توكلنا. وفعل { فستعلمون } معلق عن العمل لمجيء الاستفهام بعده. وقرأ الجمهور { فستعلمون } بتاء الخطاب على أنه مما أمر بقوله الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأه الكسائي بياء الغائب على أن يكون إخباراً من الله لرسوله بأنه سيعاقبهم عقاب الضالّين.