الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ }

إعادة الخطاب بـ { يا قوم } تأكيد لما في الخطاب به أول مرة من المعاني الّتي ذكرناها، وأما عطف النداء بالواو مع أن المخاطب به واحد وشأن عطف النداء أن يكون عند اختلاف المنادى، كقول المعري
يا ساهر البرق أيقظن راقد السمر لعل بالجزع أعواناً على السهر   
ثم قال
ويا أسيرة حجليها أرى سفها حَمْلَ الحُلي بمن أعيَا عن النظر   
فأما إذا اتّحد المنادى فالشأن عدم العطف كما في قصة إبراهيم ـ عليه السلام ـ في سورة مريم 42إذ قال لأبيه يا أبت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } إلى قولهوَلِيّاً } مريم45 فقد تكرّر النداء أربع مرات. فتعين هنا أن يكون العطف من مقول نوح ـ عليه السّلام ـ لا من حكاية الله عنه. ثمّ يجوز أن يكون تنبيهاً على اتّصال النداءات بعضها ببعض، وأن أحدها لا يغني عن الآخر، ولا يكون ذلك من قبيل الوصل لأن النداء افتتاح كلام فجملته ابتدائية وعطفها إذا عطفت مجرد عطف لفظي. ويجوز أن يكون ذلك تفنناً عربياً في الكلام عند تكرر النداء استحساناً للمخالفة بين التأكيد والمؤكد. وسيجيء نظير هذا قريباً في قصة هود ـ عليه السلام ـ وقصة شعيب ـ عليه السّلام ـ. ومنه ما وقع في سورة المؤمن30 ـ 33 في قولهوقال الذي آمن يا قوم إني أخَافُ عَليْكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوحٍ وعادٍ وثمود والذينَ مِن بعَدهم وما الله يريد ظلماً للعباد ويا قوم إنّي أخَافُ علَيكُم يَوْم التنادِ يوم تُولّون مُدبرين ما لكم من الله من عاصمٍ } ثم قالوقال الذي آمن يا قوم اتبعونِ أهدكم سبيل الرشاد، يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاعٌ وإن الآخرة هي دار القرار، من عمل سيئة فَلا يُجزى إلاّ مثلَها ومَن عمِل صالحاً من ذكر أو أنْثى وهو مؤمنٌ فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حسابٍ ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النّار } غافر 38 ـ 41. فعطف ويا قوم تارة وترك العطف أخرى. وأما مع اختلاف الوصف المنادى به فقد جاء العطف وهو أظهر لما في اختلاف وصف المنادى من شبه التغاير كقول قيس بن عاصم، وقيل حاتم الطائيء
أيا ابنةَ عبد الله وابنةَ مالك ويا ابنةَ ذي البُردين والفرس الورد   
فقوله ويابنة ذي البردين عطف نداء على نداء والمنادى بهما واحد. لما أظهر لهم نوح ـ عليه السّلام ـ أنه يجبرهم على إيمان يكرهونه انتقل إلى تقريبهم من النظر في نزاهة ما جاءهم به، وأنه لا يريد نفعاً دنيوياً بأنّه لا يسألهم على ما جاء به مالاً يعطونه إياه، فماذا يتهمونه حتّى يقطعون بكذبه. والضمير في قوله { عليه } عائد إلى المذكور بمنزلة اسم الإشارة في قوله { ومن يفعل ذلك } فإن الضمير يعامل معاملة اسم الإشارة.

السابقالتالي
2