الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ ٱلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }

هذا تكرير ثان لفعلقل هو الذي أنشأكم } الملك 23. كان من بَذاءة المشركين أن يجهروا بتمني هلاك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهلاك من معه من المسلمين، وقد حكى القرآن عنهمأم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون } الطور 30 وحكى عن بعضهمويَتربص بكم الدوائر } التوبة 98، وكانوا يتآمرون على قتله، قال تعالىوإذ يَمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يقتلوك } الأنفال 30، فأمره الله بأن يعرفهم حقيقةً تدحض أمانيَّهم، وهي أن موت أحد أو حياته لا يغني عن غيره ما جرَّه إليه عمله، وقد جرَّت إليهم أعمالهم غضب الله ووعيده فهو نائلهم حَيي الرسول صلى الله عليه وسلم أو بادره المنون، قال تعالىفإمَّا نذهبَنَّ بك فإنّا منهم منتقمون أو نُرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون } الزخرف 41، 42 وقالوما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مِتَّ فهُم الخالدون } الأنبياء 34 وقالإنك مَيت وإنهم ميتون } الزمر 30 أي المشركين، وقد تكرر هذا المعنى وما يقاربه في القرآن، وينسب إلى الشافعي
تمنَّى رجال أن أموت فإنْ أمت فتلكَ سبيل لستُ فيها بأوْحَدِ   
فقد يكون نزول هذه الآيات السابقة صادف مقالة من مقالاتهم هذه فنزلت الآية في أثنائها وقد يكون نزولها لمناسبة حكاية قولهممتى هذا الوعد } الملك 25 بأن قارنه كلام بذيء مثل أن يقولوا أبَعْدَ هلاكك يأتي الوَعْد. والإهلاك الإِماتة، ومقابلةُ { أهلكني } بـ { رحِمنا } يدل على أن المراد أو رحمنا بالحياة، فيفيد أن الحياة رحمة، وأن تأخير الأجل من النعم، وإنما لم يؤخر الله أجل نبيه صلى الله عليه وسلم مع أنه أشرف الرسل لحِكَم أرادها كما دلّ عليه قوله " حياتي خيرٌ لكم وموْتي خيرٌ لكم " ، ولعلّ حكمة ذلك أن الله أكمل الدين الذي أراد إبلاغه فكان إكماله يوم الحج الأكبر من سنة ثلاث وعشرين من البعثة، وكان استمرار نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم خصِّيصية خصّه الله بها من بين الأنبياء، فلما أتم الله دينه ربا برسوله صلى الله عليه وسلم أن يبقى غير متصل بنزول الوحي فنقله الله إلى الاتصال بالرفيق الأعلى مباشرة بلا واسطة، وقد أشارت إلى هذا سورة { إذا جاء نصر الله } من قولهورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره } النصر 1ــ 3. ولله درَ عبد بني الحسحاس في عبرته بقوله
رأيت لمنايا لم يدعْنَ محمداً ولا باقياً إلاَّ لَهْ الموتُ مُرْصَداً   
وقد عوضه الله تعالى بحياة أعلى وأجل، إذ قالورفعنا لك ذكرك } الشرح 4، وبالحياة الأبدية العاجلة وهي أنه يَرُدُّ عليه روحَه الزكية كلَّما سلّم عليه أحد فيردّ عليه السلام كما ثبت بالحديث الصحيح. وإنما سمَّى الحياة رحمة له ولمن معه، لأن في حياته نعمة له وللناس ما دام الله مقدراً حياته، وحياة المؤمن رحمة لأنه تكثر له فيها بركة الإِيمان والأعمال الصالحة.

السابقالتالي
2