الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }

إعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة أن الشيطان يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء، وأن الرحمٰن يعد بالمغفرة والفضل نبّه على أن الأمر الذي لأجله وجب ترجيح وعد الرحمٰن على وعد الشيطان هو أن وعد الرحمٰن ترجحه الحكمة والعقل، ووعد الشيطان ترجحه الشهوة والنفس من حيث إنهما يأمران بتحصيل اللذة الحاضرة واتباع أحكام الخيال والوهم، ولا شك أن حكم الحكمة والعقل هو الحكم الصادق المبرأ عن الزيغ والخلل، وحكم الحس والشهوة والنفس توقع الإنسان في البلاء والمحنة، فكان حكم الحكمة والعقل أولى بالقبول، فهذا هو الإشارة إلى وجه النظم. بقي في الآية مسائل: المسألة الأولى: المراد من الحكمة إما العلم وإما فعل الصواب يروى عن مقاتل أنه قال: تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه أحدها: مواعظ القرآن، قال في البقرةوَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَٱلْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ } [البقرة: 231] يعني مواعظ القرآن وفي النساء { وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَٱلْحِكْمَةِ } يعني المواعظ، ومثلها في آل عمران وثانيها: الحكمة بمعنى الفهم والعلم، ومنه قوله تعالى:وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } [مريم: 12] وفي لقمانوَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَة } [لقمان: 12] يعني الفهم والعلم وفي الأنعامأُوْلَـٰئكَ ٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحُكْمَ } [الأنعام: 89] وثالثها: الحكمة بمعنى النبوّة في النساءفَقَدْ ءاتَيْنَا ءَالَ إِبْرٰهِيمَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ } [النساء: 54] يعني النبوّة، وفي صوَءَاتَيْنَـٰهُ ٱلْحِكْمَةَ وفصل الخطاب } [صۤ: 20] يعني النبوّة، وفي البقرةوَآتَـٰهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ } [البقرة: 251] ورابعها: القرآن بما فيه من عجائب الأسرار في النحلٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبّكَ بِٱلْحِكْمَةِ } [النحل: 125] وفي هذه الآية { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم، ثم تأمل أيها المسكين فإنه تعالى ما أعطى إلا القليل من العلم، قال تعالى:وَمَا أُوتِيتُم مّن ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء: 85] وسمى الدنيا بأسرها قليلا، فقال:قُلْ مَتَـٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ } [النساء: 77] وانظر كم مقدار هذا القليل حتى تعرف عظمة ذلك الكثير، والبرهان العقلي أيضاً يطابقه لأن الدنيا متناهية المقدار، متناهية المدة، والعلوم لا نهاية لمراتبها وعددها ومدة بقائها، والسعادة الحاصلة منها، وذلك ينبئك على فضيلة العلم والاستقصاء في هذا الباب قد مرّ في تفسير قوله تعالى:وَعَلَّمَ ءادَمَ ٱلأَسْمَاء كُلَّهَا } [البقرة: 31] وأما الحكمة بمعنى فعل الصواب فقيل في حدها: إنها التخلق بأخلاق الله بقدر الطاقة البشرية، ومداد هذا المعنى على قوله صلى الله عليه وسلم: " تخلقوا بأخلاق الله تعالى " واعلم أن الحكمة لا يمكن خروجها عن هذين المعنيين، وذلك لأن كمال الإنسان في شيئين: أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، فالمرجع بالأول: إلى العلم والإدراك المطابق، وبالثاني: إلى فعل العدل والصواب، فحكي عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قوله

السابقالتالي
2 3