الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } * { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ فَمِنْهُمْ } أي: من الذرية { مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي: خارجون عن طاعته، بترك نصوص كتبه وتحريفها، وإيثار آراء الأحبار والرهبان عليها، واجترام ما نهوا عنه { ثُمَّ قَفَّيْنَا } أي: أتبعنا { عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً } أي: حناناً ورقَّة على الخلق، لكثرة ما وصى به عيسى عليه السلام، من الشفقة وهضم النفس والمحبة. وكان في عهده أمتان عظيمتا القسوة والشدة: اليهود والرومان. وهؤلاء أشد قسوة، وأعظم بطشاً، لا سيما في العقوبات. فقد كان لهم أفانين في تعذيب النوع البشريّ بها. ومنها تسليط الوحوش المفترسة عليه، وتربيتها لذلك، مما جاءت البعثة المسيحية على أثرها، وجاهدت في مطاردتها، وصبرت على منازلتها، حتى ظهرت عليها بتأييده تعالى ونصره - كما بيّنه آخر سورة الصف.

{ وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } أي: ما فرضناها عليهم، وإنما هم التزموها من عند أنفسهم. { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ } استثناء منقطع. أي: ولكنهم ابتدعوها طلبَ مرضاة الله عنهم. { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي: ما قاموا بما التزموه منها حق القيام من التزهُّد، والتخلّي للعبادة وعلم الكتاب، بل اتخذوها آلة للترؤس والسؤدد، وإخضاع الشعب لأهوائهم. { فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } يعني: الذين آمنوا الإيمان الخالص عن شوائب الشرك والابتداع. ومنه الإيمان بمحمد صلوات الله عليه، المبشر به عندهم. { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي: خارجون عن مواجب الإيمان ومقاصده.

تنبيهات

الأول: الرهبانية: هي المبالغة في العبادة والرياضة، والانقطاع عن الناس، وإيثار العزلة والتبتل. وأصلها الفعلة المنسوبة إلى الرُّهبان، وهو الخائف. (فعلان) من رهب، كـ (خشيان) من خشي.

الثاني: قال ابن كثير: في قوله تعالى: { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا }: ذمٌّ لهم من وجهين:

أحدهما: في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله.

والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل.

الثالث: رأيت في كثير من مؤلفات علماء المسيحيين المتأخرين ذم بدعة (الرهبنة) وما كان لتأثيرها في النفوس والأخلاق من المفاسد والأضرار.

فقد قال صاحب (ريحانة النفوس) منهم، في الباب السابع عشر، في الرهبنة: إن الرهبنة قد نشأت من التوهم بأن الانفراد عن معاشرة الناس، واستعمال التقشفات والتأملات الدينية، هي ذات شأن عظيم. ولكن لا يوجد سند لهذا الوهم في الكتب المقدسة لأن مثال المسيح، ومثال رسله يضادانه باستقامة، فإنهم لم يعتزلوا عن الاختلاط بالناس، لكي يعيشوا بالانفراد، بل إنما كانوا دائماً مختلطين بالعالم، يعلّمون وينصحون. ونحن نقول بكل جراءة: إنه لا يوجد في جميع الكتاب المقدس مثال للرهبنة، ولا يوجد أمر من أوامره يلزم بها.

السابقالتالي
2 3