الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

قوله تعالى: { وَلاَ يَرْهَقُ }: فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنها مستأنفةٌ. والثاني: أنها في محل نصب على الحال، والعامل في هذه الحال الاستقرار الذي تضمَّنه الجارُّ، وهو " للذين " لوقوعه خبراً عن " الحسنى " قاله أبو البقاء، وقدَّره بقوله: " استقرَّ لهم الحسنى مضموماً لهم السَّلامة " ، وهذا ليس بجائز لأن المضارعَ متى وقع حالاً منفيَّاً بـ " لا " امتنع دخولُ واو الحال عليه كالمثبت، وإن وَرَدَ ما يُوهم ذلك يُؤَوَّل بإضمار مبتدأ، وقد تقدم تحقيقُه غيرَ مرة. والثالث: أنه في محلِّ رفع نسقاً على " الحسنى " ، ولا بدَّ حينئذٍ من إضمار حرفٍ مصدري يَصِحُّ جَعْلُه معه مخبراً عنه بالجارّ، والتقدير: للذين أحسنوا الحسنى، وأنْ لا يرهق، أي: وعدم رَهَقِهم، فلمَّا حُذِفت " أن " رُفع الفعلُ المضارع لأنه ليس من مواضع إضمار " أنْ " ناصبة وهذا كقوله تعالى:وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [الروم: 24]، أي: أن يُرِيَكم، وقوله: " تَسْمع بالمُعَيْدِيّ خيرٌ من أن تراه " ، وقوله:
2582 ـ ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوَغَى   ..................................
أي: أن أحضر. رُوي برفع " أحضر " ونصبه. ومنع أبو البقاء هذا الوجه، فقال: " ولا يجوز أن يكون معطوفاً على " الحسنى " لأن الفعل إذا عُطِفَ على المصدر احتاج إلى " أَنْ " ذِكْراً أو تقديراً، و " أنْ " غيرُ مقدرة لأن الفعلَ مرفوع " ، فقوله: " وأَنْ غيرُ مقدرةٍ، لأن الفعل مرفوع " ليس بجيد لأن قوله تعالى:وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [الروم: 24] معه " أنْ " مقدرة مع أنه مرفوع، ولا يَلْزم من إضمار " أنْ " نصب المضارع، بل المشهورُ أنه إذا أُضْمرت " أن " في غير المواضع التي نصَّ النحويون على إضمارها ناصبة ارتفعَ الفعلُ، والنصبُ قليلٌ جدا.

والرَّهَق: الغِشْيان. يقال: رَهِقَه يَرْهَقُه رَهَقا، أي: غَشِيَهُ بسرعة، ومنهوَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي } [الكهف: 37]فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } [الجن: 13]/ يقال: رَهِقْتُه وأَرْهَقْتُه نحو: رَدِفْتُه وأَرْدَفْتُه، فَفَعَل وأَفْعل بمعنىً، ومنه: " أَرْهَقْت الصلاةَ " إذا أخَّرْتَها حتى غَشِي وقتُ الأخرى، ورجلٌ مُرْهَق، أي: يغشاه الأضياف. وقال الأزهري: " الرَّهَق " اسمٌ من الإِرهاق، وهو أن يَحْمِلَ الإِنسانُ على نفسه ما لا يُطيق، ويقال: " أَرْهَقْتُه عن الصلاة " ، أي: أَعْجَلْتُه عنها. وقال بعضهم. أصلُ الرَّهَق: المقاربة، ومنه غلامٌ مراهِق، أي: قارب الحُلُم، وفي الحديث: " ارهَقُوا القِبلة " ، أي: اقرُبوا منها، ومنه " رَهِقَتِ الكلابُ الصيدَ " ، أي: لحقته.

والقَتَر والقَتَرة: الغبار معه سوادٌ وأنشدوا للفرزدق:
2583 ـ مُتَوَّجٌ برِداء المُلك يَتْبَعُه   موجٌ ترى فوقه الراياتِ والقترا
أي: غبار العسكر. وقيل: القَتَرُ: الدخان، ومنه " قُتار القِدْر ". وقيل: القَتْر: التقليل ومنهلَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } [الفرقان: 67]، ويقال: قَتَرْتُ الشيء وأَقْتَرْتُه وقتَّرته، أي: قَلَّلْته، ومنهوَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } [البقرة: 236]، وقد تقدم. والقُتْرَةُ: ناموس الصائد. وقيل: الحفرة، ومنه قول امرىء القيس:
2584 ـ رُبَّ رامٍ من بني ثُعَلٍ   مُتْلِجٍ كَفَّيْهِ في قُتَرِهْ
أي: في حفرته التي يَحْفرها. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وأبو رجاء والأعمش " قَتْرٌ " بسكونِ التاء وهما لغتان قَتْر وقَتَرَ كقَدْر وقَدَر.