الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ }

فيه خمس مسائل: الأولى: قوله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ } أي ملّكناك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فتخلُف من كان قبلك من الأنبياء والأئمة الصالحين. وقد مضى في «البقرة» القول في الخليفة وأحكامه مستوفى والحمد لله. الثانية: قوله تعالى: { فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ } أي بالعدل. وهو أمر على الوجوب وقد ارتبط هذا بما قبله، وذلك أن الذي عوتب عليه داود طلبه المرأة من زوجها وليس ذلك بعدل. فقيل له بعد هذا فاحكم بين الناس بالعدل { وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ } أي لا تقتد بهواك المخالف لأمر الله { فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي عن طريق الجنة. { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي يحيدون عنها ويتركونها { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ } في النار { بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ } أي بما تركوا من سلوك طريق الله فقوله: «نَسُوا» أي تركوا الإيمان به، أو تركوا العمل به فصاروا كالناسين. ثم قيل: هذا لداود لما أكرمه الله بالنبوّة. وقيل: بعد أن تاب عليه وغفر خطيئته. الثالثة: الأصل في الأقضية قوله تعالى: { يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ } وقوله:وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ } [المائدة: 49] وقوله تعالى:لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ } [النساء: 105] وقوله تعالى:يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ } [المائدة: 8] الآية. وقد تقدّم الكلام فيه. الرابعة: قال ابن عباس في قوله تعالى: { يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } قال: إن ارتفع لك الخصمان فكان لك في أحدهما هوًى، فلا تشته في نفسك الحق له لِيفلُج على صاحبه، فإن فعلتَ محوتُ اسمك من نبوّتي، ثم لا تكون خليفتي ولا أهل كرامتي. فدلّ هذا على بيان وجوب الحكم بالحق، وألاّ يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع، أو سبب يقتضي الميل من صحبة أو صداقة، أو غيرهما. وقال ابن عباس: إنما ابتلي سليمان بن داود عليه السلام، لأنه تقدّم إليه خصمان فهوِي أن يكون الحق لأحدهما. وقال عبد العزيز بن أبي روّاد: بلغني أن قاضياً كان في زمن بني إسرائيل، بلغ من اجتهاده أن طلب إلى ربه أن يجعل بينه وبينه علَما، إذا هو قضى بالحق عرف ذلك وإذا هو قصّر عرف ذلك، فقيل له: ادخل منزلك، ثم مدّ يدك في جدارك، ثم انظر حيث تبلغ أصابعك من الجدار فاخطط عندها خطاً فإذا أنت قمت من مجلس القضاء، فارجع إلى ذلك الخط فامدد يدك إليه، فإنك متى ما كنت على الحق فإنك ستبلغه، وإن قصّرت عن الحق قصّر بك، فكان يغدو إلى القضاء وهو مجتهد فكان لا يقضي إلا بحق، وإذا قام من مجلسه وفرغ لم يذق طعاماً ولا شراباً، ولم يفِض إلى أهله بشيء من الأمور حتى يأتي ذلك الخط، فإذا بلغه حمد الله وأفضى إلى كل ما أحلّ الله له من أهل أو مطعم أو مشرب.

السابقالتالي
2