الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ }

جرى هذا الكلام مجرى الحجة على مضمون الجملة الماضية أو المثالِ لها فإنّه لما ذكر أنّ الله يخرج الذين آمنوا من الظلمات إلى النور وأنّ الطاغوت يخرجون الذين كفروا من النور إلى الظلمات، ساق ثلاثة شواهد على ذلك هذا أولها وأجمعها لأنّه اشتمل على ضلال الكافر وهدى المؤمن، فكان هذا في قوّة المثال. والمقصود من هذا تمثيل حال المشركين في مجادلتهم النبي صلى الله عليه وسلم في البعث بحال الذي حاجّ إبراهيم في ربه، ويدل لذلك ما يرد من التخيير في التشبيه في قولهو كالذي مر على قرية } البقرة 259 الآية. وقد مَضى الكلام على تركيب ألم تر. والاستفهامُ في { ألم تر } مجازي متضمّن معنى التعجيب، وقد تقدم تفصيل معناه وأصله عند قوله تعالىألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } البقرة 243. وهذا استدلال مسوق لإثبات الوحدانية لله تعالى وإبطال إلاهية غيره لانفراده بالإحياء والإماتة، وانفراده بخلق العوالم المشهودة للناس. ومعنى { حاجّ } خاصم، وهو فعل جاء على زنة المفاعلة، ولا يعرف لحاجّ في الاستعمال فعل مجرد دال على وقوع الخصام ولا تعرف المادة التي اشتق منها. ومن العجيب أنّ الحجة في كلام العرب البرهان المصدّق للدعوى مع أنّ حاج لا يستعمل غالباً إلاّ في معنى المخاصمة قال تعالىوإذ يتحاجّون في النار } غافر 47 مع قولهإن ذلك لحق تخاصم أهل النار } ص 64، وأنّ الأغلب أنّه يفيد الخصام بباطل، قال تعالىوحاجّه قومه قال أتحاجّوني في الله وقد هدان } الأنعام 80 وقالفإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله } آل عمران 20 والآيات في ذلك كثيرة. فمعنى { الذي حاجّ إبراهيم } أنّه خاصمه خصاماً باطلاً في شأن صفات الله ربّ إبراهيم. والذي حَاجّ إبرهيم كافر لا محالة لقوله { فبهت الذي كفر } ، وقد قيل إنّه نمرودُ بن فالخ بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن كوش بن حام بن نوح، فيكون أخا رَعو جدِّ إبراهيم. والذي يُعتمد أنّه ملك جبّار، كان ملكاً في بابل، وأنّه الذي بنى مدينة بابل، وبنى الصرح الذي في بابل، واسمه نمرُود ــــــ بالدال المهملة في آخره ــــــ ويقال بالذال المعجمة، ولم تتعرّض كتب اليهود لهذه القصة وهي في المرويات. والضمير المضاف إليه رَب عائِد إلى إبراهيم، والإضافة لتشريف المضاف إليه، ويجوز عوده إلى الذي، والإضافة لإظهار غلطه كقول ابن زيابة
نُبِّئْتُ عَمراً غارزاً رأسَه في سِنَةٍ يُوعِدُ أخوا لَه   
أي ما كان من شأن المروءة أن يُظهر شراً لأهلِ رحمه. وقوله { أن أتاه الله الملك } تعليل حذفت منه لام التعليل، وهو تعليل لما يتضمنّه حاجّ من الإقدام على هذا الغلط العظيم الذي سهّله عنده ازدهاؤه وإعجابه بنفسه، فهو تعليل محض وليس علة غَائِيَّة مقصودةً للمحاجِّ من حجاجه.

السابقالتالي
2 3