الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

استئناف بياني ناشىء عن الأمر بالقتال في سبيل الله في قولهوقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم } البقرة 244 إذ يبدو للسامع أن القتال لأجل دخول العدو في الإسلام فبيّن في هذه الآية أنه لا إكراه على الدخول في الإسلام وسيأتي الكلام على أنّها محكمة أو منسوخة. وتعقيب آية الكرسي بهاته الآية بمناسبة أنّ ما اشتملت عليه الآية السابقة من دلائل الوحدانية وعظمة الخالق وتنزيهه عن شوائب ما كفرت به الأممُ، من شأنه أن يسوق ذوي العقول إلى قبول هذا الدين الواضححِ العقيدة، المستقيم الشريعةِ، باختيارهم دون جبر ولا إكراه، ومن شأنه أن يجعل دوامهم على الشرك بمحل السؤال أيُتْرَكون عليه أم يُكْرَهُون على الإسلام، فكانت الجملة استئنافاً بيانياً. والإكراه الحمل على فعل مكروه، فالهمزة فيه للجعل، أي جعله ذا كراهية، ولا يكون ذلك إلاّ بتخويف وقوع ما هو أشدّ كراهية من الفعل المدعو إليه. والدين تقدم بيانه عند قولهمالك يوم الدين } الفاتحة 3، وهو هنا مراد به الشرع. والتعريف في الدين للعهد، أي دين الإسلام. ونفي الإكراه خير في معنى النهي، والمراد نفي أسباب الإكراه في حُكم الإسلام، أي لا تكرهوا أحداً على أتباع الإسلام قسراً، وجيء بنفي الجنس لقصد العموم نصاً. وهي دليل واضح على إبطال الإكراه على الدِّين بسائر أنواعه، لأنّ أمر الإيمان يجري على الاستدلال، والتمكين من النظر، وبالاختيار. وقد تقرر في صدر الإسلام قتال المشركين على الإسلام، وفِي الحديث " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها ". ولا جائز أن تكون هذه الآية قد نزلت قبل ابتداء القتال كله، فالظاهر أنّ هذه الآية نزلت بعد فتح مكة واستخلاص بلاد العرب، إذ يمكن أن يدوم نزول السورة سنين كما قدمناه في صدر تفسير سورة الفاتحة لا سيما وقد قيل بأنّ آخر آية نزلت هي في سورة النساء 176يبين الله لكم أن تضلوا } الآية، فنسخت حكم القتال على قبول الكافرين الإسلام ودلت على الاقتناع منهم بالدخول تحت سلطان الإسلام وهو المعبّر عنه بالذمة، ووضحُه عمل النبي وذلك حين خلصت بلاد العرب من الشرك بعد فتح مكة وبعد دخول الناس في الدين أفواجاً حين جاءت وفود العرب بعد الفتح، فلما تم مراد الله من إنقاذ العرب من الشرك والرجوع بهم إلى ملَّة إبراهيم، ومن تخليص الكعبة من أرجاس المشركين، ومن تهيئة طائفة عظيمة لحمل هذا الدين وحماية بيضته، وتبيّنَ هدى الإسلام وزال ما كان يحول دون اتِّباعه من المكابرة، وحقّق الله سلامه بلاد العرب من الشرك كما وقع في خطبة حجة الوداع إنّ الشيطان قد يئس من أن يُعبد في بلدكم هذا لَمَّا تم ذلك كله أبطل الله القتال على الدين وأبقى القتال على توسيع سلطانه، ولذلك قال سورة التوبة 29

السابقالتالي
2 3 4