الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ }

وقوله: { لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } [التوبة: 25] يلفتنا إلى أن النصر يكون من عند الله وحده، والدليل على أن النصر من عند الله أنه سبحانه قد نصر رسوله والذين معه في مواطن كثيرة، و { مَوَاطِنَ } [التوبة: 25] جمع " موطن " والموطن هو ما استوطنت فيه. وكل الناس مستوطنون في الأرض، وكل جماعة منا تُحيز مكاناً من الأرض ليكون وطناً لها، والوطن مكان محدد نعيش فيه من الوطن العام الذي هو الأرض لأن الأرض موطن البشرية كلها، ولكن الناس موزعون عليها، وكل جماعة منهم تحيا في حيز تروح عليه وتغدو إليه وتقيم فيه. والله سبحانه هنا يقول: { لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } [التوبة: 25]، وما دام الحديث عن النصر، يكون المعنى: إن الحق سبحانه قد نصركم في مواطن الحرب أي مواقعها، مثل يوم بدر، ويوم الحديبية، ويوم بني النضير، ويوم الأحزاب، ويوم مكة، وكل هذه كانت مواقع نصر من الله للمسلمين، ولكنه في هذه الآية يخص يوماً واحداً بالذكر بعد الكلام عن المواطن الكثيرة، فبعد أن تحدث إجمالاً عن المعارك الكثيرة يقول: { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } [التوبة: 25] فكثرة عدد المؤمنين في يوم حنين كان ظرفاً خاصًّا، أما المواطن الأخرى، مثل يوم بدر فقد كانوا قلة، ويوم فتح مكة كانوا كثرة، ولكنهم لم يعجبوا لم يختالوا بذلك، إذن: ففي يوم حنين اجتمعت لهم الكثرة مع الإعجاب، وبذلك يكون يوم حنين له مزية، فهو يوم خاص بعد الحديث العام. { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ } [التوبة: 25] هذا الإعجاب ظرف ممدود على اليوم نفسه، إذن فيوم حنين ليس معطوفاً على { مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } [التوبة: 25] ولكنه جملة مستقلة بنفسها لأن الكثرة والإعجاب بالكثرة لم تكن في بقية المواطن، وهذه دقة في الأداء اللغوي تتطلب بحثاً لغويّاً. فكلمة { مَوَاطِنَ } [التوبة: 25] هي ظرف مكان، و { يَوْمَ حُنَيْنٍ } [التوبة: 25] هي ظرف زمان، فكيف جاز أن نعطف ظرف الزمان على ظرف المكان؟ ونقول: هذا هو ما يسميه العرب " احتباك " لأن كل حدث مثل " أكل " و " شرب " و " ضرب " و " ذاكر " كل حدث لا بد له من زمان ولا بد له من مكان، فإذا قلت: أكلت، نقول: متى؟ في الصبح، أو في الظهر، أو في العصر، أو في العشاء؟ وأين؟ في البيت، أو في الفندق، أو في المطعم، أو في الشارع. إذن: فلا بد لكل حدث من ظرف زمان وظرف مكان، فإذا راعيت ذلك أخذت الظرفية المطلقة ظرفية مكان حدوث الفعل، وظرفية زمان حدوث الفعل.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7