الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى ٱلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

{ وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } أي: يُقْبَضَون من رجالكم { وَيَذَرُونَ } أي: يتركون { أَزْوَاجاً } بعد الموت { وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ } خبر الذين أي: يوصون، أو ليوصوا، أو كتب الله عليهم وصيةً. وفي قراءةٍ، بالرفع. أي: عليهم وصيّة لأزواجهم في أموالهم { مَّتَاعاً إِلَى ٱلْحَوْلِ } بدل من وصية، على قراءة من نصبها. وعلى قراءة الرفع فمنصوب بوصية أو بفعله { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } حال من أزواجهم، أي: غير مخرجات. والمعنى: يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل الاحتضار لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولاً بالنفقة والسكنى من غير أن يخرجن من مسكن زوجهنّ { فَإِنْ خَرَجْنَ } عن منزل الأزواج من قِبَل أنفسهن { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } على أولياء الميت { فِي مَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ } لا ينكره الشرع - كالتزيّن والتطيّب وترك الحداد والتعرّض للخطّاب - وفيه دلالة على أنّ المحظور إخراجها عند إرادتها القرار، وملازمة مسكن الزوج، والحداد من غير أن يجب عليها ذلك، وأنها مخيّرة بين الملازمة مع أخذ النفقة، وبين الخروج مع تركها { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }.

ثم ليعلم أن اختيار جمهور المفسرين أنّ هذه الآية منسوخة بالتي قبلها وهو قوله تعالى:يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [البقرة: 234]. قالوا: كان الحكم في ابتداء الإسلام أنه إذا مات الرجل اعتدّت زوجته حولاً، وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول، وكانت نفقتها وسكناها واجبتين في مال زوجها تلك السنة وليس لها من الميراث شيء، ولكنها تكون مخيرة. فإن شاءت اعتدّت في بيت زوجها ولها النفقة والسكنى، وإن شاءت خرجت قبل تمام الحول وليس لها نفقة ولا سكنى؛ وكان يجب على الرجل أن يوصى بذلك.

فدلّت هذه الآية على مجموع أمرين. أحدهما: أنّ لها النفقة والسكنى من مال زوجها سنة، والثاني: أنّ عليها عدّة سنة؛ ثم نسخ هذان الحكمان.

أما الوصية بالنفقة والسكنى فنسخت بآية الميراث، فجعل لها الربع أو الثمن عوضاً عن النفقة والسكنى. ونسخ عدة الحول بأربعة أشهر وعشر.

وقد روى البخاريّ عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان بن عفان { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً } قد نسختها الآية الأخرى فَلِمَ نَكْتُبها أو تَدَعُهَا..؟ قال: يا ابن أخي! لا أغير شيئاً منه من مكانه.

وأخرج أبو داود والنسائيّ عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: نسخت بآية الميراث بما فرض الله لهن من الربع والثمن، ونسخ أجل الحول بأن جعل أجلها أربعة أشهرٍ وعشراً.

هذا، وقد ذهب مجاهد إلى أنّ هذه الآية محكمة كالأولى. أخرجه عنه البخاري. قال مجاهد: دلت الآية الأولى وهي:يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [البقرة: 234] على أنّ هذه عدتها المفروضة تعتدّها عند أهل زوجها. ودلت هذه الآية، بزيادة سبعة أشهر وعشرين ليلة على العدّة السابقة تمام الحول، أنّ ذلك من باب الوصية بالزوجات أن يُمكَّنَّ من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولاً كاملاً، ولا يمنعن من ذلك، لقوله: { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فإذا انقضت عدتهنّ بالأربعة أشهر والعشر - أو بوضع الحمل - واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل، فإنهنّ لا يمنعن من ذلك لقوله: { فَإِنْ خَرَجْنَ } إلخ.

السابقالتالي
2