الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ }

{ أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ }.الجملة اعتراض بين الثناء على القرآن فيما مضى وقوله الآتيولقدَ ضَربْنَا للنَّاسِ في هذا القُرآنِ من كُل مَثَلٍ } الزمر 27. وجعلها المفسرون تفريعاً على جملةذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هادٍ } الزمر 23 بدلالة مجموع الجملتين على فريقين فريق مهتد، وفريق ضالٍ، ففرع على ذلك هذا الاستفهام المستعمل في معنى مجازي. وجعل المفسرون في الكلام حذفاً، وتقدير المحذوف كمن أمن العذاب أو كمن هو في النعيم. وجعلوا الاستفهام تقريرياً أو إنكارياً، والمقصود عدم التسوية بين من هو في العذاب وهو الضالّ ومن هو في النعيم وهو الذي هداه الله، وحُذف حال الفريق الآخر لظهوره من المقابلة التي اقتضاها الاستفهام بناء على أن هذا التركيب نظير قولهأفمَنْ حقَّ عليهِ كلمةُ العذابِ } الزمر 19 وقولهأفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلاَمِ } الزمر 22، والقول فيه مثل القول في سابقه من الاستفهام وحذف الخبر، وتقديره أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب، لأن الله أضله كمن أمن من العذاب لأن الله هداه، وهو كقوله تعالىأفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله } محمد 14. والمعنى أن الذين اهتدوا لا ينالهم العذاب.ويجوز عندي أن يكون الكلام تفريعاً على جملةوَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } الزمر 23 تفريعاً لتعيين مَا صْدِق مَنْ في قوله { ومن يُضْلِل الله فما له من هَادٍ } ويكون { من يتقي } خبراً لمبتدأ محذوف، تقديره أفهو من يتقي بوجهه سوء العذاب، والاستفهام للتقرير.والاتقاء تكلف الوقاية وهي الصون والدفع، وفعلها يتعدى إلى مفعولين، يقال وقى نفسه ضربَ السيف، ويتعدّى بالباء إلى سبب الوقاية، يقال وقى بترسه، وقال النابغة
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولْته واتَّقتنا باليد   
وإذا كان وجه الإنسان ليس من شأنه أن يُوقى به شيء من الجسد، إذ الوجه أعزّ ما في الجسد وهو يُوقَى ولا يُتقى به فإن من جبلِّة الإِنسان إذا توقع ما يصيب جسده ستر وجهه خوفاً عليه، فتعين أن يكون الاتقاء بالوجه مستعملاً كناية عن عدم الوقاية على طريقة التهكم أو التلميح، فكأنه قيل من يطلب وقاية وجهه فلا يجد ما يقيه به إلا وجهه، وهذا من إثبات الشيء بما يشبه نفيه، وقريب منه قوله تعالىوإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل } الكهف 29. و { سُوءَ العَذَابِ } منصوب على المفعولية لفعل { يَتَّقِي }. وأصله مفعول ثان إذ أصله وَقَى نفسه سوءَ العذاب، فلما صيغ منه الافتعال صار الفعل متعدياً إلى مفعول واحد هو الذي كان مفعولاً ثانياً. { وَقِيلَ لِلظَّـلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تكسبون } يجوز أن يكون { وَقِيلَ } عطفاً على الصلة. والتقدير أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب، وقيل لهم فإن مَن مراد بها جمْع، والتعبير بــــ { الظالمين } إظهار في مقام الإِضمار للإِيماء إلى أن ما يلاقونه من العذاب مسبب على ظلمهم، أي شركهم.

السابقالتالي
2