الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ }

والسلام يعني الاطمئنان والرضا الذي لا تأتي بعده الأغيار لأن السلام في الدنيا قد تُعكِّر أَمْنه أغيارُ الحياة فأنتم أيها المؤمنون الذين دخلتم الجنة بريئون من الأغيار. وقال صلى الله عليه وسلم عن لحظات ما بعد الحساب: " الجنة أبداً، أو النار أبداً ". ولذلك يقول سبحانه عن خيرات الجنة:لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } [الواقعة: 33]. والملائكة كما نعلم نوعان: الملائكة المهيمون الذين يشغلهم ذكر الله تعالى عن أيِّ شيء ولا يدرون بِنَا ولا يعلمون قصة الخَلْق وليس لهم شَأنٌ بكُلِّ ما يجري فليس في بالهم إلا الله وهم الملائكة العَالُون الذين جاء ذكرهم في قصة السجود لآدم حين سأل الحق سبحانه الشيطان:أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ } [ص: 75]. أي: أن العالين هنا هم مَنْ لم يشملهم أَمْرُ السجود، وليس لهم علاقة بالخلق، وكُلُّ مهمتهم ذكر الله فقط. أما النوع الثاني فهم الملائكة المُدبِّرات أمراً، ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى قد استدعى آدم إلى الوجود هو وذريته، وأعدَّ له كل شيء في الوجود قبل أن يجئ الأرض مخلوقة والسماء مرفوعة والجبال الرَّواسي بما فيها من قُوتٍ والشمس والقمر والنجوم والمياه والسحاب. والملائكة المُدبِّرات هم مَنْ لهم علاقة بالإنسان الخليفة، وهم مَنْ قال لهم الحق سبحانه:ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ.. } [البقرة: 34]. وهم الذين يتولَّوْن أمر الإنسان تنفيذاً لأوامر الحق سبحانه لهم، ومنهم الحفظة الذين قال فيهم الحق سبحانه:لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ.. } [الرعد: 11]. أي: أن الأمر صادر من الله سبحانه، وهم بَعْد أنْ يفرغوا من مهمتهم كحفظة من رقيب وعتيد على كل إنسان، ولن يوجد ما يكتبونه من بعد الحساب وتقرير الجزاء وهنا سيدخل هؤلاء الملائكة على أهل الجنة ليحملوا ألطاف الله والهدايا فهم مَنُوط بهم الإنسان الخليفة. وسبحانه حين يُورِد كلمة في القرآن بموقعها البياني الإعرابي فهي تُؤدِّي المعنى الذي أراده سبحانه. والمَثَل هو كلمة " سلام " فضيف إبراهيم من الملائكة:قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ.. } [هود: 69]. وكان القياس يقتضي أن يقول هو " سلاماً " ، ولكنها قضية إيمانية، لذلك قال:سَلاَمٌ.. } [هود: 69]. فالسلام هنا لم يَأْتِ منصوباً بل جاء مرفوعاً لأن السلام للملائكة أمرٌ ثابت لهم وبذلك حَيَّاهم إبراهيم بتحية هي أحسن من التحية التي حَيَّوه بها. فنحن نُسلِّم سلاماً وهو يعني أن نتمنى حدوث الفعل، ولكن إبراهيم عليه السلام فَطِنَ إلى أن السلام أمرٌ ثابت لهم. وهكذا الحال هنا حين تدخل الملائكة على العباد المكرمين بدخول الجنة، فَهُمْ يقولون: { سَلاَمٌ.. } [الرعد: 24]. وهي مرفوعة إعرابياً لأن السلام أمر ثابت مُستِقر في الجنة، وهم قالوا ذلك لأنهم يعلمون أن السلام أمر ثابت هناك لا يتغير بتغيُّر الأغيار كما في أمر الدنيا.

السابقالتالي
2