الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }

لما كان الذين حسبوا أن يكونوا في الآخرة في نعمة وعزة كما كانوا في الدنيا قالوا ذلك عَنْ غير دليل ولا نظر ولكن عن اتباع ما يشتهون لأنفسهم من دوام الحال الحسن تفرع على حسبانهم التعجيب من حالهم، فعطف بالفاء الاستفهامُ المستعملُ في التعجيب، وجعل استفهاماً عن رؤية حالهم، للإشارة إلى بلوغ حالهم من الظهور إلى حد أن تكون مرئية.وأصل التركيب { أفرأيت من اتخذ إلٰهه هواه } الخ، فقدمت همزة الاستفهام، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود من معه من المسلمين، أو الخطاب لغير معيّن، أي تناهت حالهم في الظهور فلا يختص بها مخاطب.و { مَنْ } الموصولة صادقة على فريق المستهزئينَ الذين حسبوا أن يكون مَحْياهم ومماتهم سواء بقرينة ضمير الجمع في الجملة المعطوفة بقولهوقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا } الجاثية 24 الخ.والمعنى أن حجاجهم المسلمين مركَّز على اتباع الهوى والمغالطةِ، فلا نهوض لحجتهم لا في نفس الأمر ولا فيما أرادوه، على فرض وقوع البعث من أن يكونوا آمنين من أهوال البعث، وأنهم لا يرجى لهم اهتداء لأن الله خلقهم غير قابلين للهدَى فلا يستطيع غيره هداهم.و { إلٰهه } يجوز أن يكون أطلق على ما يلازم طاعته حتى كأنه معبود فيكون هذا الإطلاق بطريقة التشبيه البليغ، أي اتخذ هواه كإلـٰه له لا يخالف له أمراً. ويجوز أن يبقى { إلٰهه } على الحقيقة ويكون { هواه } بمعنى مَهْوِيَّهُ، أي عبد إلـٰهاً لأنه يحب أن يعبده، يعني الذين اتخذوا الأصنام آلهة لا يقلعون عن عبادتها لأنهم أحبوها، أي ألِفوها وتعلقت قلوبهم بعبادتها، كقوله تعالىوأُشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } البقرة 93.ومعنى { أضلّه الله } أنه حفّهم بأسباب الضلالة من عقول مكابرة ونفوس ضعيفة، اعتادت اتباع ما تشتهيه لا تستطيع حَمل المصابرة والرضى بما فيه كراهية لها. فصارت أسماعهم كالمختوم عليها في عدم الانتفاع بالمواعظ والبراهين، وقلوبُهم كالمختوم عليها في عدم نفوذ النصائح ودلائل الأدلة إليها، وأبصارُهم كالمغطاة بغشاوات فلا تنتفع بمشاهدة المصنوعات الإلـٰهية الدالة على انفراد الله بالإلـٰهية وعلى أنَّ بعد هذا العالم بعثاً وجزاء.ومعنى { على علم } أنهم أحاطت بهم أسباب الضلالة مع أنهم أهل علم، أي عقول سليمةٍ أوْ مع أنهم بلغهم العِلم بما يهديهم وذلك بالقرآن ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام.فحرف { على } هنا معناه المصاحبة بمعنى مع وأصل هذا المعنى استعارة معنى الاستعلاء للاستعلاء المجازي وهو التمكن بين الوصف والموصوف. وشاع ذلك حتى صار معنى من معاني على كما في قول الحارث بن حلزة
فيَقيناً على الشَّنَاءة تَنْمينا حُصون وعِزّة قعساء   
والمعنى أنه ضال مع مَا له من صفة العلم، فالعلم هنا من وصف من اتخذ إلـٰهه هواه وهو متمكن من العلم لو خلع عن نفسه المكابرة والميل إلى الهوى.

السابقالتالي
2 3