الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

وهنا نجد تصعيداً للحوار فبعد أنْ كان من المتبوعين والتابعين نجد هذا الارتقاء في الحوار ليكون بين الشيطان وبين البشر. ونلحظ أن الحق سبحانه هنا بالحال الذي يدور فيه الحوار وهو انقضاء الأمر حيث تقرَّر الوَضْع النهائي لكل شيء ولا نقاشَ في أيّ أمر، ولا فرصة للتراجع عما حدثَ. وقضاءُ الأمر يعني أن يذهب كل إنسان إلى مصيره، فمَنْ كان من أهل الجنة دخلها ومَنْ كان من أهل النار دخلها فقد وصلتْ الأمور الى حَدِّها النهائي الذي لا تتغير من بعده. ويفضح الشيطان نفسه فيقول: { إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ.. } [إبراهيم: 22]. ووَعْد الله حَقٌّ، لأنه وَعْد مِمَّنْ يملك أما وَعْد الشيطان فقد اختلف لأنه وَعْد بما لا يملك لذلك هو وَعْد كاذب لأن الحق سبحانه هو الأمر الثابت الذي لا يتغير. وحين تَعِد أنت - الإنسان - إنساناً آخر بخير قادم فهل تضمن أنْ تُواتيك ظروفك على أن تُحقِّق له هذا الأمر؟ ولذلك يوصينا الحق سبحانه أن نقول " إن شاء الله " وبذلك نردّ الوَعْد لله فهو وحده الذي يمكنه أنْ يَعِدَ ويُنفِّذ ما يعِد به. وعلى الواحد منا أنْ يحميَ نفسه من الكذب، وأن يقول " إن شاء الله " فإنْ لم تستطع أنْ تحققَ ما وعدت به تكون قد حميتَ نفسك من أنْ تُلِقي اتهاماً بالكذب. ونجد الشيطان وهو يقول في الآخرة: { وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ.. } [إبراهيم: 22]. ذلك أن وَعْده باطل والباطل لَجْلج، وحين تحكم به الآن تُثبت لك الوقائع عكسه، وتجعلك لا تصدق ما حكمتَ به. ولذلك نجد الحق سبحانه يوضح لنا المسافة بين الحق والباطل فيقول:فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ } [الرعد: 17]. وهكذا يحاول الشيطان أن يُبرِّيء نفسه رغم عِلْمه أنه قد وعد، وهو لا يملك إنفاذ ما وعد به ولذلك يحاول أن يلصق التهمة بِمَنْ اتبعوه مثله مثل أولئك الذين قالوا:لَوْ هَدَانَا ٱللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ.. } [إبراهيم: 21]. فيقول الشيطان من بعد ذلك: { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي } [إبراهيم: 22]. والسلطان - كما نعلم - إما سلطانَ قَهْر أو سلطانَ إقناع. وسلطان القَهْر يعني أن يملك أحدٌ من القوة ما يقهر به غيره على أنْ يفعلَ ما يكره، بينما يكون كارهاً للفعل. أما سلطان الحجة فهو أن يملك منطقاً يجعلك تعمل وفق ما يطلبه منك وتحب ما تفعل، وهكذا يعترف الشيطان للبشر يوم الحشر الأعظم ويقول: أريد أنْ أناقشكم هل كان لي سلطان قَهْريّ أقهركم به؟ هل كان لي سلطان إقناع أقنعكم به على اتباع طريقي؟ لم يكن لي في دنياكم هذه ولا تلك، فلا تتهموني ولا تجعلوني " شماعة " تُعلِّقون عليّ أخطاءكم فقد غويتُ من قبلكم وخالفتُ أمر ربي ولم يكن لي عليكم سلطان سوى أن دعوتُكم فاستجبتم لي.

السابقالتالي
2 3 4