الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }

{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } أي: أيّ شيء ينفقونه من أصناف الأموال؟ { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ } قبل غيرهما ليكون أداءً لحقّ تربيتهما مع كونه صلة الوصل وصدقة { وَٱلأَقْرَبِينَ } بعدهما ليكون صلة وصدقة { وَٱلْيَتَامَىٰ } بعدهم لأنّ فيهم الفقر مع العجز { وَٱلْمَسَاكِينِ } بعدهم لاحتياجهم { وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } بعدهم لأنه كالفقير لغيبة ماله.

فإن قيل: كيف طابق الجواب السؤال، فإنهم سألوا عن بيان ما ينفقون، وأُجيبوا ببيان المصرف؟ فالجواب: أنّ قوله: { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } قد تضمن بيان ما ينفقونه - وهو كلّ مالٍ عدّوه خيراً - وبنى الكلام على ما هو أهمّ وهو بيان المصرف، لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها. قال الشاعر:
إن الصنيعة لا تكون صنيعةً   حتى يصاب بها طريق المصنع!
فإذا صنعت صنيعةً فاعمد بها   لله أو لذوي القرابة أو دَعِ..!
فيكون الكلام من الأسلوب الحكيم كقوله تعالى:يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ } [البقرة: 189]. فيما تقدم هذا.

وقال القفال: إنّه وإن كان السؤال وارداً بلفظ ما، إلا أنّ المقصود السؤال عن الكيفية، لأنهم كانوا عالمين أنّ الذي أمروا به إنفاق مال يخرج قربة إلى الله تعالى؛ وإذا كان هذا معلوماً لم ينصرف الوهم إلى أنّ ذلك المال أي شيء هو؟ وإذا خرج هذا عن أن يكون مراداً تعين أنّ المطلوب بالسؤال: أنّ مصرفه أي شيء هو؟ وحينئذٍ يكون الجواب مطابقاً للسؤال. ونظيره قوله تعالى:قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ... } [البقرة: 70-71]، وإنما كان هذا الجواب موافقاً لذلك السؤال، لأنه كان من المعلوم أنّ البقرة هي البهيمة التي شأنها وصفتها كذا؛ فقوله: { مَا هِيَ }؟ لا يمكن حمله على طلب الماهية، فتعين أن يكون المراد منه طلب الصفة التي بها تتميز تلك البقرة عن غيرها. فبهذا الطريق قلنا: إنّ ذلك الجواب مطابق لذلك السؤال. فكذا ههنا، لما علمنا أنهم كانوا عالمين بأن الذي أمروا بإنفاقه ما هو - وجب أن يقطع بأنّ مرادهم من قولهم: { مَاذَا يُنْفِقُونَ } ليس هو طلب الماهية، بل طلب المصرف، فلهذا حسن هذا الجواب..!

وأجاب الراغب بجوابين:

أحدهما: أنهم سألوا عنهما وقالوا: ما ننفق؟ وعلى من ننفق؟ ولكن حذف حكاية السؤال أحدهما إيجازاً، ودل عليه بالجواب بقوله: { مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ } كأنه قيل: المنفَق الخيرُ، والمنفق عليهم هؤلاء؛ فلفف أحد الجوابين في الآخر، وهذا طريق معروف في البلاغة.

الجواب الثاني: إنّ السؤال ضربان: سؤال جدل، وحقه أن يطابقه جوابه. لا زائداً عليه ولا ناقصاً عنه. وسؤال تعلّم، وحق المعلّم أن يكون كالطبيب يتحرى شفاء سقيم فيطلب ما يشفيه - طلبه المريض أو لم يطلب.

السابقالتالي
2