الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ }

قوله: { أَمْ حَسِبَ }: " أم " منقطعةٌ، فَتُقَدَّر بـ بل والهمزةِ، أو بـ بل وحدها، أو بالهمزة وحدَها. وتقدم تحقيق هذا.

قوله: { كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ }: هو المفعولُ الثاني للجَعْل أي: أَنْ نجعلَهم كائنين كالذين آمنوا أي: لا يَحْسَبُوْن ذلك، وقد تَقَدَّمَ في سورة الحج: أنَّ الأخَوَيْن وحفصاً قرؤُوا هنا " سواءً " بالنصب، والباقون بالرفع، ووَعَدْتُ بالكلام عليه هنا، فأقول وبالله التوفيق: أمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أَنْ تَنْتَصِبَ على الحالِ من الضميرِ المستترِ في الجارِّ والمجرورِ وهما: " كالذين آمنوا " ، ويكونُ المفعولُ الثاني للجَعْل " كالذين آمنوا " أي: أحَسِبوا أَنْ نَجْعَلَهم مثلَهم في حالِ استواءِ مَحْياهم ومماتِهم ليس الأمرُ كذلك. الثاني: أَنْ يكونَ " سواءً " هو المفعولَ الثاني للجَعْل، و " كالذين " في محلِّ نصبٍ على الحال أي: لن نجعلَهم حالَ كونِهم مثلَهم سواءً، وليس معناه بذاك. الثالث: أَنْ يكونَ " سواءً " مفعولاً ثانياً لـ " حَسِب ".

وهذا الوجهُ نحا إليه أبو البقاء، وأظنُّه غَلَطاً لِما سَيَظْهَرُ لك فإنَّه قال: " ويُقْرأ بالنصب. وفيه وجهان، أحدهما: هو حالٌ من الضميرِ في الكافِ أي: نجعلَهم مثلَ المؤمنين في هذه الحالِ. والثاني: أَنْ يكونَ مفعولاً ثانياً لـ " حَسِب " والكافُ حالٌ، وقد دَخَلَ استواءُ مَحْياهم وممَاتُهم في الحُسْبان، وعلى هذا الوجهِ مَحْياهم ومماتُهم مرفوعان بـ " سَواء "؛ لأنَّه قد قَوِيَ باعتمادِه " انتهى. فقد صَرَّح بأنه مفعولٌ ثانٍ للحُسْبان. وهذا لا يَصِحُّ البتةَ؛ لأنَّ " حَسِبَ " وأخواتِها إذا وَقَعَ بعدها " أنَّ " المشددةُ أو " أَنْ " المخففةُ أو الناصبةُ سَدَّتْ مَسَدَّ المفعولين، وهنا قد وَقع بعد الحُسْبان " أنْ " الناصبةُ فهي سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْنِ، فَمِنْ أين يكونُ " سواءً " مفعولاً ثانياً لـ حَسِب؟

فإنْ قلتَ: هذا الذي قُلْتُه رأيُ الجمهورِ سيبويهِ وغيرِه، وأمَّا غيرُهم كالأخفشِ فيدَّعي أنها تَسُدُّ مَسَدَّ واحدٍ. إذا تقرَّر هذا فقد يجوزُ أنَّ أبا البقاءِ ذَهَبَ هذا المذهبَ، فأعرب " أَنْ نجعلَهم " مفعولاً أولَ و " سواءً " مفعولاً ثانياً. فالجواب: أنَّ الأخفشَ صَرَّحَ بأنَّ المفعولَ الثاني حينئذٍ يكونُ محذوفاً. ولَئِنْ سَلَّمْنا أنَّه لا يُحْذَفُ امتنع مِنْ وجهٍ آخرَ: وهو أنه قد رفع به " محياهُم ومماتُهم " لأنه بمعنى مُسْتَوٍ كما تقدَّم، ولا ضميرَ يَرْجِعُ مِنْ مرفوعِه إلى المفعولِ الأولِ، بل رَفَعَ أجنبياً من المفعولِ الأولِ. وهو نظيرُ: " حَسِبْتُ قيامَك مُسْتوياً ذهابُك وعَدَمُه ".

ومَنْ قرأ بالرفع فتحتمل قراءتُه وجهَيْن، أحدهما: أَنْ يكونَ " سواءٌ " خبراً مقدماً. و " مَحْياهم " مبتدأً مؤخراً/ ويكون " سواء " مبتدأً و " مَحْياهم " خبرَه.

السابقالتالي
2 3