الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }

تبدأ الآية بنداء الذين آمنوا بالله وكأنه يقول لهم: يا مَنْ آمنتم بي استمعوا لحديثي. فلم يكلف الله من لم يؤمن به وإنما خاطب الذين أحبوه وآمنوا به، وما داموا قد أحبوا الله فلابد أن يتجه كل مؤمن إلى مَنْ يحبه لأن الله لن يعطيه إلا ما يسعده. إذن فالتكليف من الله إسعادٌ لمن أحب، { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً } [البقرة: 208]، وكلمة " في " تُفيد الظرفية، ومعنى الظرفية أن شيئاً يحتوي شيئاً، مثال ذلك الكوب الذي يحتوي الماء فنقول: " الماء في الكوب " ، وكذلك المسجد يحتوي المصلين فنقول: " المصلون في المسجد ". والظرفية تدل على إحاطة الظرف بالمظروف، وما دام الظرف قد أحاط بالمظروف، إذن فلا جهة يفلت منها المظروف من الظرف. ولذلك يعطينا الحق سبحانه وتعالى صورة التمكن من مسألة الظرفية عندما يقول:وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ.. } [طه: 71]. إن الصلب دائماً يكون على شيء، وتشاء الآية الكريمة أن تشرح لنا كيف يمكن أن يكون الصلب متمكناً من المصلوب. فأنت إذا أردت أن تصلب شيئاً على شيء فأنت تربطه على المصلوب عليه، فإذا ما بالغت في ربطه كأنك أدخلت المصلوب داخل المصلوب عليه. ومثال ذلك، هات عود كبريت وضعه على إصبعك ثم اربطه بخيط ربطاً جيداً، ستلاحظ أن العود قد غاص في جلدك. والحق يقول: { ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً } [البقرة: 208] والسِّلْم والسَّلْمُ والسَّلَم هو الإسلام، فالمادة كلها واحدة لأن السلم ضد الحرب، والإسلام جاء لينهي الحرب بينك وبين الكون الذي تعيش فيه لصالحك ولصالح الكون ولتكون في سلام مع الله وفي سلام مع الكون، وفي سلام مع الناس. وفي سلام مع نفسك. قوله: { ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ } [البقرة: 208] معناه حتى يكتنفكم السلم. إن الله هو الإله الخالق للكون ولابد أن تعيشوا في سلام معه لأنكم لا تؤمنون إلا به إلهاً واحداً. فيجب علينا أن نعيش مع الأرض والسماء والكون في سلام لأن الكون الخاضع المقهور المسخر الذي لا يملك أن يخرج عما رُسم له يعمل لخدمتك ولا يعاندك. والإنسان حين يكون طائعاً يُسَرّ به كل شيء في الوجود لأن الوجود طائع ومُسَبِّح، فساعة يجد الإنسان مُسبِّحاً مثله يُسَرّ به لأنه في سلام مع الكون. وأنت في سلام مع نفسك لأن لك إرادة، وهذه الإرادة قَهَرَ اللهُ لها كل جوارحك، والذي تريده من أي عضو يفعله لك، لكن هل يرضى أي عضو عمّا تأمره به؟ تلك مسألة أخرى، مثلاً، لسانك ينفعل بإرادتك، فتقول به: " لا إله إلا الله " وقال به غيرنا من المشركين غير ذلك، وأشركوا مع الله بشراً وغير بشر يعبدونهم وقال الملحدون بألسنتهم والعياذ بالله: " لا إله في الكون " ولم يعص اللسان أحداً من هؤلاء لأنه مقهور لإرادتهم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6