الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

وهذا الأمر مراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء وهو شامل لأمته. إما هذه هي إنْ الشرطية اتصلت بها ما الزايدة التي تزاد على بعض الأسماء غير أدوات الشروط فتصيرها أدواتِها، نحو مهما فإن أصلها مَاما، ونحو إذما وأينما وأيانَما وحيثما وكيفما فلا جرم أن مَا إذا اقترنت بما يدل على الشرط أكتسبته قوةَ شرطية فلذلك كتبت إما هذه على صُورة النطق بها ولم تكتب مفصولة النون عن مَا. والنزغ النخس والغرز، كذا فسره في «الكشاف» وهو التحقيق، وأما الراغب وابن عطية فقيداه بأنه دخول شيء في شيء لإفساده، قلتَ وقريبٌ منه الفسخ بالسين وهو الغرز بإبرة أو نحوها للوشْم قال ابن عطية «وقلّما يُستعمل في غير فعل الشيطانمن بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي } يوسف 100. وإطلاق النزغ هنا على وسوسة الشيطان استعارة شبه حدوث الوسوسه الشيطانية في النفس بنزغ الإبرة ونحوها في الجسم بجامع التأثير الخفي، وشاعت هذه الاستعارة بعد نزول القرءان حتى صارت كالحقيقة. والمعنى أن ألقى إليك الشيطان ما يخالف هذا الأمر بأن سوّل لك الأخذ بالمعاقبة أوْ سَوّل لك تركَ أمرهم بالمعروف غضباً عليهم أو يأساً من هداهم، فاستعذ بالله منه ليدفع عنك حرجه ويشرح صدرك لمحبة العمل بما أمرت به. والاستعاذة مصدر طَلب العوذ، فالسين والتاء فيها للطلب، والعوذ الإلتجاء إلى شيء يدفع مكروهاً عن الملتجيء، يقال عاذ بفلان، وعاذ بالحرَم، وأعاذه إذا منعه من الضر الذي عَاذ من أجله. فأمرَ الله بدفع وسوسة الشيطان بالعوذ بالله، والعوذُ بالله هو الالتجاء إليه بالدعاء بالعصمة، أو استحضار ما حدده الله له من حدود الشريعة، وهذا أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الالتجاء إلى الله فيما عسر عليه، فإن ذلك شكر على نعمة الرسالة والعصمة، فإن العصمة من الذنوب حاصلة له، ولكنه يشكر الله بإظهار الحاجة إليه لادامتها عليه، وهذا مثل استغفار الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله في حديث «صحيح مسلم» " إنه ليُغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة " ، فالشيطان لا ييأس من إلقاء الوسوسة للأنبياء لأنها تنبعث عنه بطبعه، وإنما يترصد لهم مواقع خفاء مقصده طمعاً في زلة تصدر عن أحدهم، وإن كان قد علم أنه لا يستطيع إغواءهم، ولكنه لا يفارقه رجاء حملهم على التقصير في مراتبهم، ولكنه إذا ما هم بالوسوسة شعروا بها فدفعوها، ولذلك علم الله رسوله عليه الصلاة والسلام الاستعانة على دفعها بالله تعالى. روى الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " «ما منكم من أحد إلا وقد وُكل به قرينُه من الجن وقرينُه من الملائكة»ــــ قالوا ــــ وأنت يا رسول الله، قال «وأنا ولكن الله أعانني عليه فأسلم» "

السابقالتالي
2