الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

هذه الآية هي ختام سورة آل عمران. وسورة آل عمران جاءت بعد سورة البقرة. والسورتان تشتركان معاً في قضية عقدية أولى، وهي الإيمان بالله والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله خاتماً للرسالات ومهيمناً عليها. ولذلك تكلم الحق عن قضية الإيمان وقضية الهدى وقضية الكتاب، ثم تعرض الحق لرواسب ديانات سابقة تحولت عن منهج الله إلى أهواء البشر، فجادل في سورة البقرة اليهود، وجادل في سورة آل عمران النصارى. وبعد ذلك عرض قضية إيمانية تتعلق بموقف المسلمين المؤمنين بالله وبتصديق رسوله في معترك الحياة، وعرض معركة من المعارك ابتلى فيها المؤمنون ابتلاءً شديداً، ثم عرض للقضية الإيمانية حين يثوب المؤمن المتخاذل إلى منهج ربه. وبعد أن ينتهي من هذه، يقول الحق: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ.. } [آل عمران: 200] أي يا من آمنتم بما تقدم إيماناً بالله، وتصديقاً بكتابه، وتصديقاً برسالته صلى الله عليه وسلم، وتمحيصاً للحق مع اليهود، وتمحيصاً للحق مع أهل الكتاب جميعاً، تمحيصاً لا جدلياً نظرياً، ولكن واقعياً في معركة من أهم معارك الإسلام وهي معركة أحد، فيا من آمنتم بالله إيماناً صادقاً صافياً، استمعوا إليّ يا من آمنتم بي { ٱصْبِرُواْ.. } [آل عمران: 200] وهذا أمر، و { وَصَابِرُواْ.. } [آل عمران: 200] أمر ثان، و { رَابِطُواْ.. } [آل عمران: 200] أمر ثالث، و { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ.. } [آل عمران: 200] أمر رابع. إنها أربعة أوامر، والغاية من هذه الأوامر هي { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [آل عمران: 200] إذن فمن عشق الفلاح فعليه أن ينفذ هذه الأربعة: اصبر، صابر، رابط، اتق الله، لعلك تفلح. والحق سبحانه وتعالى حين يعبر عن الفلاح إنما يعبر بأمر مشهود مُحس للناس جميعاً، لم يقل لك: افعل ذلك لتنجح أو لتفوز. إنما جاء بكلمة " الفلاح ". و " الفلاح " كما قلنا: مأخوذ من فلح الأرض. وفلح الأرض هو شقها لتتعرض للهواء، ولتكون سهلة هينة تحت الجذير البسيط الخارج من البذرة، فإذا فلحت الأرض بهذه المشقة حرثاً وبذراً وتعهداً بالري ماذا يحدث لك من الأرض؟ إنها تؤتيك خيراً مادياً مشهوداً ملحوظاً. إذن فقد ضرب الله المثل في المعنويات بالأمر المُحس الذي يباشره الناس جميعاً، وأي فَلاَح هذا الذي يقصده الحق سبحانه وتعالى؟ إنه فلاح الدنيا وفلاح الآخرة فلاح الدنيا بأن تنتصروا على خصومكم، وأن تعيشوا معيشة آمنة مستقرة رغدة، وفلاح الآخرة أن تأخذوا حظكم من الخلود في النعيم المقيم، وما دام سبحانه يقول: اصبروا فلابد أن يكون هذا إيذاناً بأن فيه مشقة، فالإيمان يؤدي إلى الجنة والجنة محفوفة بالمكاره لذلك لابد أن تكون فيه مشقات.

السابقالتالي
2 3 4 5 6