الرئيسية - التفاسير


* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق


{ وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً }

{ وَءاتُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ أَمْوٰلَهُمْ } شروعٌ في تفصيل مواردِ الاتقاءِ ومظانّةِ بتكليف ما يقابلها أمراً ونهياً عَقيبَ الأمرِ بنفسِه مرة بعد أخرى، وتقديمُ ما يتعلق باليتامى لإظهار كمالِ العنايةِ بأمرهم ولملابستهم بالأرحام إذ الخِطابُ للأولياء والأوصياءِ وقلما تُفوَّض الوصايةُ إلى الأجانب، واليتيمُ من مات أبوه، من اليُتم وهو الانفرادُ ومنه الدرةُ اليتيمةُ، وجمعُه على يتامىٰ إما أنه لما جرى مَجرى الأسماءِ جُمع على يتائِمَ ثم قُلب فقيل: يتامى، أو لأنه لما كان من وادي الآفاتِ جُمع على يَتْمى ثم جُمع يَتمى على يتامى، والاشتقاقُ يقتضي صحةَ إطلاقِه على الكبار أيضاً، واختصاصُه بالصغار مبنيٌّ على العُرف، وأما قولُه عليه السلام: " لا يُتمَ بعد الحُلُم " ، فتعليمٌ للشريعة لا تعيـينٌ لمعنى اللفظِ أي لا يجري على اليتيم بعده حكمُ الأيتام.

والمرادُ بإيتاء أموالِهم قطعُ المخاطَبـين أطماعَهم الفارغةَ عنها وكفُّ أكُفِهم الخاطفةِ عن اختزالها، وتركُها على حالها غيرَ مُتعرَّضٍ لها بسوء حتى تأتيَهم وتصلَ إليهم سالمةً كما ينبىء عنه ما بعده عن النهي عن التبدّل والأكلِ لا الإعطاءِ بالفعل فإنه مشروطٌ بالبلوغ وإيناسِ الرُشدِ على ما ينطِق به قوله تعالى:حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ } [النساء، الآية 6] الآية، وإنما عبّر عما ذُكر بالإيتاء مجازاً للإيذان بأنه ينبغي أن يكونَ مرادُهم بذلك إيصالاً إليهم لا مجردَ تركِ التعرّضِ لها، فالمرادُ بهم إما الصغارُ على ما هو المتبادرُ، والأمرُ خاصٌّ بمن يتولى أمرَهم من الأولياء والأوصياءِ وشمولُ حكمِه لأولياء مَن كان بالغاً عند نزولِ الآيةِ بطريق الدِلالةِ دون العبارة، وأما من جرى عليه اليتمُ في الجملة مجازاً أعمُّ من أن يكون كذلك عند النزولِ، أو بالغاً فالأمرُ شاملٌ لأولياء الفريقين صيغة موجب عليهم ما ذكر من حفظ أموالِهم والتحفظِ عن إضاعتها مطلقاً، وأما وجوبُ الدفعِ إلى الكبار فمستفادٌ مما سيأتي من الأمر به، وقيل: المرادُ بهم الصغارُ وبالإيتاء الإعطاءُ في الزمان المستقبلِ، وقيل: أُطلق اسمُهم على الكبار بطريق الاتساعِ لقرب عهدِهم باليتم حثاً للأولياء على المسارعة إلى دفع أموالِهم إليهم أولَ ما بلغوا قبل أن يزولَ عنهم اسمُهم المعهودُ، فالإيتاءُ بمعنى الإعطاءِ بالفعل، ويأباهما ما سيأتي من قوله تعالى:وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ } [النساء، الآية 6] الخ، فإن ما فيه من الأمر بالدفع واردٌ على وجه التكليفِ الابتدائيِّ لا على وجه تعيـينِ وقتِه أو بـيانِ شرطِه فقط كما هو مقتضى القولين، وأما تعميمُ الاسمِ للصغار والكبارِ مجازاً بطريق التغليبِ مع تعميم الإيتاءِ للإيتاء حالاً وللإيتاء مآلاً وتعميمِ الخطابِ لأولياء كِلا الفريقين على أن مَنْ بلغ منهم فوليُّه مأمورٌ بالدفع إليه بالفعل وأن من لم يبلُغْ بعدُ فوليُّه مأمورٌ بالدفع إليه عند بلوغِه الرشدَ، فمع ما سبق تكلفٌ لا يخفى، فالأنسبُ ما تقدم من حمل إيتاءِ أموالِهم إليهم على ما يؤدي إليه من ترك التعرضِ لها بسوءٍ كما يلوحُ من التعبـير عن الإعطاء بالفعل بالدفع سواءٌ أريد باليتامى الصغارُ أو ما يعمُّ الصغارَ والكبارَ حسبما ذُكر آنفاً.

السابقالتالي
2