الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ }

قوله تعالى: { رُّبَمَا } { رُبَ }: فيها قولان، أحدُهما: أنها حرفُ جرٍّ، وزعم الكوفيون وأبو الحسن وابن الطَّراوة أنها اسم. ومعناها التقليلُ على المشهور. وقيل: تفيد التكثير. وقيل: تفيد التكثير في مواضعِ الافتخار كقوله:
29220- فيا رُبَّ يومٍ قد لَهَوْتُ وليلةٍ   بآنسةٍ كأنها خطُّ تِمْثالِ
وقد أُجيب عن ذلك: بأنها لتقليل النظير. ودلائلُ هذه الأقوال في النحو. وفيها لغاتٌ كثيرةٌ أشهرها: " رُبَ " بالضم والتشديد، أو التخفيف، وبالثانية قرأ نافع وعاصم. و " رَبَ " بالفتح مع/ التشديد والتخفيف، ورُبْ ورَبْ بالضم والفتح مع السكون فيهما. وتتصل تاءُ التأنيث بكلِّ ذلك، وبالتاء قرأ طلحةُ بن مصرف وزيدُ بن علي: رُبَّتَما. وإذا اتصلت بها التاء جاز فيها الإِسكانُ والفتح كثُمَّت ولات، فتكثر الألفاظ، ولها أحكامٌ كثيرةٌ منها: لزومُ تصديرِها، ومنها تنكيرُ مجرورِها وقوله:
2923- رُبَّما الجامِلِ المُؤَبَّلِ فيهمُ   وعَنَاجيجُ بينهنَّ المهَارى
ضرورةٌ في رواية مَنْ جَرًّ " الجامِل ". وتَجُرُّ ضميراً لازمَ التفسير بنكرةٍ بعده، يُستغنى بتثيِتها وجمعِها وتانيثِها عن تثنية الضمير وجمعِه وتأنيثِه كقولِه "
2924-............................   ورُبَّه عَطِباً أَنْقَذْتُ مِنْ عَطَبِهْ
والمطابقةُ نحو::رُبَّهما رجلين " نادرةٌ. وقد يُعطف على مجرورِها ما أُضيف إلى ضميرِه نحو: " رُبَّ رجلٍ وأخيه ". وها يلزم وَصْفُ مجرورِها، ومُضِيُّ ما يتعلَّق به؟ خلاف، والصحيحُ عدمُ ذلك. فمِنْ مجيئه غيرَ موصوفٍ قولُ هندٍ:
2925- يا رُبَّ قائلةٍ غداً   يا لهفَ أمِّ مُعاويهْ
ومن مجيء المستقبلِ قولُه:
2926- فإنْ أَهْلَِكْ فربَّ فتىً سيبكيْ   عليَّ مهذَّبٍ رَخْصِ البَنانِ
وقولُها: " يا رُبَّ قائلةٍ غداً " البيت، وقول سليم:
2927- ومعتصمٍ بالحيِّ من خشية الرَّدى   سيُرْدى وغازٍ مُشْفِقٍ سَيَؤُوب
فإنَّ حرف التنفيس و " غداً " خَلَّصاه للاستقبالِ.

و " ما " في " رُبما " تحتمل وجهين، أظهرُهما: أنها المهيِّئَةُ، بمعنى: أن " رُبَّ " مختصةٌ بالأسماء، فلمَّا جاءت " ما " هَيَّأت دخولَها على الأفعال. وقد تقدَّم نظيرُ ذلك في " إنَّ " وأخواتها، وتَكُفُّها أيضاً عن العمل كقولِه:
2928- رُبَّما الجامِلُ المُؤَبَّلُ.........   ..........................
في روايةِ مَنْ رَفَعه، كما جَرَى ذلك في كاف التشبيه. والثاني: أنَّ " ما " نكرةٌ موصوفةٌ بالجملةِ الواقعة بعدها، والعائدُ على " ما " محذوفٌ، تقديره: رُبَّ شيءٍ يَوَدُّه الذين كفروا.

وقوله: { يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } مَنْ لم يلتزمْ مُضِيَّ متعلِّقِها لم يَحْتَجْ إلى تأويلٍ، ومَنْ التَزَم ذلك قال: لأن المُتَرَقَّب في أخبار الله تعالى واقعٌ لا محالةَ، فعبَّر عنه بالماضي تحقيقاً لوقوعِه، كقوله:أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [النحل: 1] ونحوِه.

قوله: { لَوْ كَانُواْ } يجوز في " لو " أن تكونَ الامتناعيةَ، وحينئذٍ يكون جوابُها محذوفاً. تقديره: لو كانوا مسلمين لسُرُّوا بذلك، أو لَخَلصوا ممَّا هم فيه. ومفعولُ " يَوَدُّ " محذوفٌ على هذا التقديرِ: أي: رُبَّما يودُّ الذين كفروا النجاةَ، دَلَّ عليه الجملةُ الامتناعية.

والثاني: أنها مصدرية عند مَنْ يرى ذلك كما تقدَّم تقريرُه في البقرة. وحينئذٍ يكون هذا المصدرُ هو المفعولَ للوَدادة، أي: يَوَدُّون كونَهم مسلمين، إنْ جعلنا " ما " كافةً، وإنْ جعلناها نكرةً كانت " لو " وما في حَيِّزِها بدلاً مِنْ " ما ".