الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ ٱلْكَافِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ }

قوله تعالى: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً } استفهام معناه التقرير والتوبيخ. و «عَجَباً» خبر كان، واسمها { أَنْ أَوْحَيْنَآ } وهو في موضع رفع أي كان إيحاؤنا عجباً للناس. وفي قراءة عبد الله «عجب» على أنه ٱسم كان. والخبر «أَنْ أَوْحَيْنَا». { إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ } قرىء «رَجْل» بإسكان الجيم. وسبب النزول فيما رُوي عن ابن عباس أن الكفار قالوا لما بُعث محمد: إن الله أعظمُ من أن يكون رسوله بشراً. وقالوا: ما وجد الله من يرسله إلا يتيمَ أبي طالب فنزلت: { أَكَانَ لِلنَّاسِ } يعني أهل مكة «عَجَباً». وقيل: إنما تعجبوا من ذكر البعث. قوله تعالى: { أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } في موضع نصب بإسقاط الخافض أي بأن أنذر الناس، وكذا { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ }. وقد تقدّم معنى النّذارة والبشارة وغير ذلك من ألفاظ الآية. واختلف في معنى «قَدَمَ صِدْقٍ» فقال ٱبن عباس: قدم صدق منزلَ صدق دليله قوله تعالى:وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ } [الإسراء: 80]. وعنه أيضاً: أجراً حسناً بما قدّموا من أعمالهم. وعنه أيضاً «قَدَمَ صِدْقٍ» سَبْقَ السعادة في الذكر الأوّل، وقاله مجاهد. الزجاج: درجة عالية. قال ذو الرُّمّة:
لكم قدَمٌ لا ينكر الناس أنها   مع الحسب العالي طَمّت على البحر
قتادة: سلف صدق. الربيع: ثواب صدق. عطاء: مقام صدق. يَمَانٍ: إيمان صدق. وقيل: دعوة الملائكة. وقيل: وَلدٌ صالح قدّموه. الماورديّ: أن يوافق صدق الطاعة صدق الجزاء. وقال الحسن وقتادة أيضاً: هو محمد صلى الله عليه وسلم فإنه شفيع مطاع يتقدّمهم كما قال: " أنا فَرَطُكم على الحوض " وقد سئل صلى الله عليه وسلم فقال: " هي شفاعتي توسّلون بي إلى ربكم " وقال الترمذيّ الحكيم: قدّمه صلى الله عليه وسلم في المقام المحمود. وعن الحسن أيضاً: مصيبتهم في النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال عبد العزيز بن يحيى: «قَدَمَ صِدْقٍ» قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ }. وقال مقاتل: أعمالاً قدّموها واختاره الطبريّ. قال الوضّاح:
صلِّ لذي العرش وٱتَّخذ قَدَماً   تُنْجيك يوم العِثار والزّلل
وقيل: هو تقديم الله هذه الأُمة في الحشر من القبر وفي إدخال الجنة. كما قال: " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة المقضيّ لهم قبل الخلائق " وحقيقته أنه كناية عن السعي في العمل الصالح فكنّى عنه بالقَدَم كما يُكنَى عن الإنعام باليد وعن الثناء باللسان. وأنشد حسان:
لنا القَدم العليا إليك وخَلْفُنا   لأوّلنا في طاعة الله تابع
يريد السابقة بإخلاص الطاعة، والله أعلم. وقال أبو عبيدة والكسائي: كل سابق من خير أو شر فهو عند العرب قَدَم يقال: لفلان قَدَم في الإسلام، له عندي قَدَم صدقٍ وقَدَم شر وقَدَم خير.

السابقالتالي
2