الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ }

هذه الآية مرتبطة بأصل الغرض المسوق له الكلام، وهو تسلية المؤمنين على ما أصابهم يوم أُحُد، وتفنيد المنافقين في مزَاعمهم أنّ الناس لو استشاروهم في القتال لأشاروا بما فيه سلامتهم فلا يهلكوا، فبعد أنّ بيّن لهم ما يدفع توهّمهم أنّ الانهزام كان خذلاناً من الله وتعجّبهم منه كيف يلحق قوماً خرجوا لنصر الدين وأن لا سبب للهزيمة بقولهإنما استزلهم الشيطان } آل عمران 155 ثم بيّن لهم أنّ في تلك الرزّية فوائد بقول الله تعالىلكيلا تحزنوا على ما فاتكم } آل عمران 153 وقولهوليعلم المؤمنين } آل عمران 166، ثم أمرهم بالتسليم لله في كلّ حال فقالوما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله } آل عمران 166 وقاليا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم } آل عمران 156 الآية. وبيّن لهم أنّ قتلى المؤمنين الذين حزِنوا لهم إنّما هم أحياء، وأنّ المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم لا يضيع الله أجرهم ولا فَضْلَ ثباتهم، وبيّن لهم أنّ سلامة الكفّار لا ينبغي أن تُحزن المؤمنين ولا أن تسرّ الكافرين، وأبطل في خلال ذلك مقال المنافقين بقولهقل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } آل عمران 154 وبقولهالذين قالوا لإخوانهم وقعدوا } آل عمران 168 إلى قولهقل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } آل عمران 168 ختم ذلك كلّه بما هو جامع للغرضين في قوله تعالى { كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } لأنّ المصيبة والحزن إنّما نشآ على موت من استشهد من خيرة المؤمنين، يعني أنّ الموت لمّا كان غاية كلّ حيّ فلو لم يموتوا اليوم لماتوا بعدَ ذلك فلا تأسفوا على موت قتلاكم في سبيل الله، ولا يفتنكم المنافقون بذلك، ويكون قوله بعده { وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } قصر قلب لتنزيل المؤمنين فيما أصابهم من الحزن على قتلاهم وعلى هزيمتهم، منزلة من لا يترقّب من عمله إلاّ منافع الدنيا وهو النصر والغنيمة، مع أنّ نهاية الأجر في نعيم الآخرة، ولذلك قال { توفون أجوركم } أي تكمل لكم، وفيه تعريض، بأنّهم قد حصلت لهم أجور عظيمة في الدنيا على تأييدهم للدين منها النصر يوم بدر، ومنها كفّ أيدي المشركين عنهم في أيام مقامهم بمكّة إلى أن تمكّنوا من الهجرة. والذوق هنا أطلق على وِجدانِ الموت، تقدّم بيان استعماله عند قوله آنفاًونقول ذوقوا عذاب الحريق } آل عمران 181 وشاع إطلاقه على حصول الموت، قال تعالىلا يذوقون فيها الموت } الدخان 56 ويقال ذاق طعم الموت. والتوفية إعطاء الشيء وافياً. ويطلقها الفقهاء على مطلق الإعطاء والتسليم، والأجور جمع الأجر بمعنى الثواب، ووجه جمعه مراعاة أنواع الأعمال. ويوم القيامة يومُ الحشر سمّي بذلك لأنّه يقوم فيه الناس من خمود الموت إلى نهوض الحياة.

السابقالتالي
2