الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }

ولما جاء بحقيقة صفتهم، عقبها بضرب المثل - زيادةً في الكشف، وتتميماً للبيان - فقال تعالى: { مَثَلُهُمْ } أي: مثالهم في نفاقهم، وحالهم فيه { كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ } أي أوقد { نَاراً } في ظلمة - والتنكير للتعظيم - { فَلَمَّآ أَضَآءَتْ } أي: أنارت النار { مَا حَوْلَهُ } فأبصر، واستدفأ، وأمن مما يخافه { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } أي: أطفأ نارهم - التي هي مدار نورهم - فبقوا في ظلمة وخوف - وجمع الضمير مراعاة لمعنى الذي كقوله:وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } [التوبة: 69]. { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } ما حولهم - متحيرين عن الطريق، خائفين - فكذلك هؤلاء استضاؤوا قليلاً بالانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم، حيث أَمِنُوا على أنفسهم وما يتبعها، ثم وراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة - ظلمة النفاق - التي ترمي بهم إلى ظلمة سخط الله، وظلمة العقاب السرمد؛ ومحصوله: أنهم انتفعوا بهذه الكلمة مدة حياتهم القليلة، ثم قطعه الله تعالى بالموت.

ونُقل - عن كثير من السلف - تفسير آخر، وهو: تمثيل إيمانهم أولاً، ثم كفرهم ثانياً. فيكون إذهاب النور في الدنيا، كما قال تعالى:ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُوا } [المنافقون: 3] الآية، فلما آمنوا أضاء الإيمان في قلوبهم - كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ناراً - ثم لما كفروا، ذهب الله بنورهم: انتزعه - كما ذهب بضوء هذه النار - وعلى هذا فالتمثيل مرتبط بما قبله، فإنهم - لما وُصِفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى - مثّل هداهم - الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد - والضلالةَ - التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم - بذهاب الله بنورهم، وتركه إياهم في الظلمات.

قال الزمخشري في الكشف: ولضرب العرب الأمثال، واستحضار العلماء المُثُل والنظائر شأنٌ ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيَّل في صورة المحقق، والمتوهَّم في معرض المتيقَّن، والغائب كأنه مشاهُد - وفيه تبكيتٌ للخصم الألد، وقَمْعٌ لسورة الجامح الأبِي.

ولأمرٍ ما، أكثر الله - في كتابه المبين، وفي سار كتبه - أمثالَهُ، وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام الأنبياء والحكماء. قال الله تعالى:وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ } [العنكبوت: 43].

والمثَلُ: في أصل كلامهم بمعنى: المثل وهو النظير. يقال: مِثْل، ومَثَل، ومثيل - كشِبه وشَبَه وشَبِيه - ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده: مَثَل. ولم يضربوا مثلاً، ولا رأوه أهلاً للتسيير ولا جديراً بالتداول والقبول، إلا قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه. ومن ثَمَّ حوفظ عليه، وحُمِيَ من التغيير.

فإنه - لو غُيِّرَ - لربما انتفت الدلالة على تلك الغرابة. وقيل: إن المحافظة على المثل إنما هي بسبب كونه استعارة.

السابقالتالي
2