الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وهناك قول كريم في آية أخرى:هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي ٱلأَرْضِ... } [فاطر: 39]. وهنا يقول الحق: { جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ }. ومعنى " خليفة " أي الذي يخلف غيره فإما أن يخلفه زماناً، وإما أن يخلفه مكاناً. وخلفه الزمان أن يأتي عصره بعد عصره، ويومه بعد يومه، وخلفة المكان أي أن يكون جالساً ثم يرحل ليأتي آخر ليستقر مكانه، وانظر إلى كل قواعد الحياة بالنسبة للإِنسان تجده في شبابه قويّاً، ثم يرحل عنه الشباب ليأخذه آخره، ويذهب إلى الشيخوخة. وكذلك نجد إنساناً يملك مكاناً ثم يتركه ويأتي واحد آخر يملكه. أو أن الحق سبحانه وتعالى أراد من الخلافة، لا خلافة بعضنا لبعض ولكن خلافة الإِنسان لرب الإِنسان في الأرض لأن كل شيء منفعل لله قهراً، والحق سبحانه وتعالى منح بسعة عطائه فجعل بعض الأشياء تنفعل لبعضها هبةً منه سبحانه، فإذا أوقدت النار - على سبيل المثال - تنفعل لك، وإذا حرثت في الأرض ووضعت فيها البذور تنفعل لك، وإذا شربت ترتوي، وإذا أكلت تشبع. من أين أخذت كل ذلك؟. إنك قد أخذته من أن الحق الذي سخّر لك ما في الكون، وجعل أسباباً ومسببات، فكأنك أنت خليفة إرادات لكي يثبت لنا سبحانه أنه يفعل ما يريد، فعلينا أن نأخذ هذه القضية قضية مسلمة، وإن أردت أن تختبر ذلك فانظر إلى أي إنسان ولو كان كافراً ويريد أن يقوم من مكانه، وتنفعل له جوارحه فيقوم، فأي جارحة أمرها أن تفعل ذلك؟. إنه لا يعرف إلا أنه بمجرد أنه أراد أن يقوم قد قام. وحتى لا تفهم أنك أخذت كل ذلك بشطارتك فهو يجعل بعضاً من الأمور مشاعاً عالمياً، مثل الموت والحياة إنهما أمران، لا يختلف فيهما الإنجليزي عن الفرنسي، عن العربي، وكذلك الضحك والبكاء، وهل هناك فرق بين ضحكة إنجليزية، أو ضحكة شيوعية أو ضحكة رأسمالية؟. طبعاً لا، فكلها ضحك وهو لغة عالمية، ولذلك قال:وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } [النجم: 43]. وسبحانه جاء بأمر مشترك موجود في الناس كلها، فأنت تتكلم وتعمل على الصورة والكيفيّة التي تريدها، لكنك ساعة تضحك فهو سبحانه الذي يضحكك. وأنت حين تودّ مجاملة أحد وتضحك له فتفاجأ بأن ضحكتك صناعية. والحق يوضح لك: إن زمام كوني في يدي، أجعل القوم مختارين في أشياء، وأجعلهم مرغمين ومتحدين على رغم أنوفهم في أشياء فأنا الذي أُضْحِك وأُبْكِي. ولا يوجد بكاء إنجليزي أو بكاء فرنساوي أو بكاء ألماني، وكل البشر شركاء في مثل هذه الأمور. { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ } [الأنعام: 165]. إن إرادتك على أبعاضك، وعلى جوارحك - أيها الإنسان - موهوبة لك من الواهب الأعلى والمريد الأعلى، وسبحانه يسلب ذلك من بعض الأفراد، فيأمر المخ: إياك أن ترسل إشارة لتلك الجارحة لتنفعل.

السابقالتالي
2 3 4