الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ءَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ }

انتقال من الاستدلال إلى التخويف لأنه لما تقرر أنه خالق الأرض ومذللها للناس وتقرر أنهم ما رعوا خالقها حق رعايته فقد استحقوا غضبه وتسليط عقابه بأن يُصيّر مشيهم في مناكب الأرض إلى تَجَلْجل في طبقات الأرض. فالجملة معترضة والاستفهام إنكار وتوبيخ وتحذير. و { مَن } اسم موصول وصلته صادِق على موجود ذي إدراك كائن في السماء. وظاهر وقوع هذا الموصول عقب جُمل { هو الذي جَعل لكم الأرض ذلولاً إلى قولهوإليه النشور } الملك 15 أن الإتيان بالموصول من قبيل الإِظهار في مقام الإِضمار، وأن مقتضى الظاهر أن يقال أأمنتموه أن يخسف بكم الأرض فيتأتى أن الإِتيان بالموصول لِما تأذن به الصلة من عظيم تصرفه في العالم العلوي الذي هو مصدر القُوى والعناصر وعجائب الكائنات فيصير قوله { من في السماء } في الموضعين من قبيل المتشابه الذي يعطي ظاهره معنى الحلول في مكان وذلك لا يليق بالله، ويجيء فيه ما في أمثاله من طريقتي التفويض للسلف والتأويل للخلَف رحمهم الله أجمعين. وقد أوَّلوه بمعنى من في السماء عذابُه أو قدرتُه أو سلطانه على نحو تأويل قوله تعالىوجاء ربك } الفجر 22 وأمثاله، وخُص ذلك بالسماء لأن إثباته لله تعالى ينفيه عن أصنامهم. ولكن هذا الموصول غير مَكين في باب المتشابه لأنه مجمل قابل للتأويل بما يَحتمله { من } أن يَكون مَا صْدَقُه مخلوقات ذات إدراك مقرها السماء وهي الملائكة فيصح أن تصدق { مَن } على طوائف من الملائكة الموكلين بالأمر التكويني في السماء والأرض قال تعالىيتنزل الأمر بينهن } الطلاق 12، ويصح أن يراد باسم الموصل ملك واحد معيَّن وظيفته فعل هذا الخسف، فقد قيل إن جبريل هو الملَك الموكّل بالعذاب. وإسناد فعل { يخسف } إلى «الملائكة» أو إلى واحد منهم حقيقة لأنه فاعل الخسف قال تعالى حكاية عن الملائكةقالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية... إنا مُنجوك وأهلك... إنَّا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء } العنكبوت 31ــــ 34. وإفراد ضمير { يخسف } مراعاة للفظ { مَن } إذا أريد طائفة من الملائكة أو مراعاة للفظ والمعنى إذا كان ما صْدق { مَن } ملكاً واحداً. والمعنى توبيخهم على سوء معاملتهم ربهم كأنهم آمنون من أن يَأمر الله ملائكته بأن يخسفوا الأرض بالمشركين. والخسف انقلاب ظاهر السطح من بعض الأرض باطناً وباطنه ظاهراً وهو شدة الزلزال. وفعل خسف يستعمل قاصراً ومتعدياً وهو من باب ضرب، وتقدم عند قوله تعالىأفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض } سورة النحل 45. والباء في قوله بكم } للمصاحبة، أي يخسف الأرض مصاحبة لذواتكم. وفي الجمع بين السماء والأرض محسّن الطباق. والمصدر المُنسبك من { أن يخسف } يجوز أن يكون بدل اشتمال من اسم الموصول لأن الخسف من شأن مَن في السماء، ويجوز أن يكون منصوباً على نزع الخافض وهو مطّرد مع { أنْ } ، والخافض المحذوف حرف مِن.

السابقالتالي
2