الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ }

قوله { أَنزَلْنَاهُ.. } [الحج: 16] أي: القرآن لأن الضمير هنا كما ذكرنا مرجعه مُتعيِّن، وما دام مرجعه مُتعيناً فلا يحتاج لذكر سابق. والإنزال يحمل معنى العلو، فإنْ رأيتَ في هذا التشريع الذي جاءك في القرآن ما يشقُّ عليك أو يحولُ بينك وبين ما تشتهيه نفسك، فاعلم أنه من أَعْلى منك، من الله، وليس من مُسَاوٍ لك، يمكن أنْ تستدرك عليه أو تناقشه: لماذا هذا الأمر؟ ولماذا هذا النهي؟ فطالما أن الأمر يأتيك من الله فلا بُدَّ أن تسمع وتطيع ولا تناقش. ولنا أُسْوة في هذا التسليم بسيدنا أبي بكر لما قالوا له: إن صاحبك يقول: إنه أُسْرِي به الليلة من مكة إلى بيت المقدس، ثم عُرِج به إلى السماء، فما كان من الصِّديِّق إلا أنْ قال: إنْ كان قال فقد صدق، هكذا دون مناقشة، فالأمر من أعلى، من الله. وقلنا: إنك لو عُدْتَ مريضاً فوجدتَ بجواره كثيراً من الأدوية فسألته: لماذا كل هذا الدواء؟ قال: لقد وصفه الطبيب، فأخذت تعترض على هذا الدواء، وتذكر من تفاعلاته وأضراره وعناصره، وأقحمت نفسك في مسألة لا دَخْلَ لك بها. هذا قياس مع الفارق ومع الاعتراف بأخطاء الأطباء في وصف الدواء، لكن لتوضيح المسألة ولله المثل الأعلى، وصدق القائل:
سُبْحانَ مَنْ يَرِثُ الطَّبِيبَ وطِبَّهُ   ويُرِي المريض مَصَارِعَ الآسِينا
إذن: حجة كل أمر ليس أن نعلم حكمته، إنما يكفي أنْ نعلم الآمر به. ومعنى { آيَاتٍ.. } [الحج: 16] أي: عجائب { بَيِّنَاتٍ.. } [الحج: 16] واضحات. وسبق أنْ ذكرنا أنْ كلمة الآيات تُطلَق على معَانٍ ثلاثة: الآيات الكونية التي تُثبِت قدرة الله، وبها يستقر الإيمان في النفوس، ومنها الليل والنهار والشمس والقمر، والآيات بمعنى المعجزات المصاحبة للرسل لإثبات صِدْق بلاغهم عن الله، والآيات التي يتكوَّن منها القرآن، وتُسمَّى " حاملة الأحكام ". فالمعنى هنا { وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ.. } [الحج: 16] تحمل كلمة الآيات كُلَّ هذه المعاني، فآيات القرآن فيها الآيات الكونية، وفيها المعجزة، وهي ذاتها آيات الأحكام. ثم يقول سبحانه: { وَأَنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ } [الحج: 16] وهذه من المسائل التي وقف الناس حولها طويلاً:يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ.. } [النحل: 93] وأمثالها تمسَّك بها مَنْ ليس لهم حَظٌّ من الهداية، يقولون: لم يُرِدِ الله لنا الهداية، فماذا نفعل؟ وما ذنبنا؟ وهذه وقفة عقلية خاطئة لأن الوَقْفة العقلية تقتضي أنْ تذكر الشيء ومقابله، أما هؤلاء فقد نبَّهوا العقل للتناقض في واحدة وتركوا الأخرى، فهي - إذن - وَقْفة تبريرية، فالضال الذي يقول: لقد كتب الله عليَّ الضلال، فما ذنبي؟ لماذا لم يَقُلْ: الطائع الذي كتب الله له الهداية، لماذا يثيبه؟!

السابقالتالي
2