الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }

بيان لما امتن الله تعالى على النبي والمسلمين، بإرسال النبي الكريم منهم إليهم نعمة لا تقدر بقدر ومنحة على منحة - وهو ذكر منه لهم - إذ لم ينسهم في هدايتهم إلى مستقيم الصراط، وسوقهم إلى أقصى الكمال، وزيادة على ذلك، وجعل القبلةالتي فيها كمال دينهم، وتوحيد عبادتهم، وتقويم فضيلتهم الدينية والاجتماعية فرّع على ذلك دعوتهم إلى ذكره وشكره، ليذكرهم بنعمته على ذكرهم إيّاه بعبوديته وطاعته، ويزيدهم على شكرهم لنعمته وعدم كفرانهم، وقد قال تعالىواذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً } الكهف 24. وقال تعالىلئن شكرتم لأزيدنكم } إبراهيم 7. والآيتان جميعاً نازلتان قبل آيات القبلة من سورة البقرة. ثم إن الذكر ربما قابل الغفلة كقوله تعالىولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا } الكهف 28، وهي انتفاء العلم بالعلم، مع وجود أصل العلم، فالذكر خلافه، وهو العلم بالعلم، وربما قابل النسيان وهو زوال صورة العلم عن خزانة الذهن، فالذكر خلافه، ومنه قوله تعالى { واذكر ربك إذا نسيت } الآية. وهو حينئذٍ كالنسيان معنى وذو آثار وخواص تتفرع عليه، ولذلك ربما أطلق الذكر كالنسيان في موارد تتحقق فيها آثارهما وإن لم تتحقق أنفسهما، فإنك إذا لم تنصر صديقك - وأنت تعلم حاجته إلى نصرك - فقد نسيته، والحال أنك تذكره، وكذلك الذكر. والظاهر أن إطلاق الذكر على الذكر اللفظي من هذا القبيل، فإن التكلم عن الشيء من آثار ذكره قلباً، قال تعالىقل سأتلوا عليكم منه ذكراً } الكهف 83، ونظائره كثيرة، ولو كان الذكر اللفظي أيضاً ذكراً حقيقة فهو من مراتب الذكر، لأنه مقصور عليه ومنحصر فيه، وبالجملة الذكر له مراتب كما قال تعالىألا بذكر الله تطمئن القلوب } الرعد 28، وقالواذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول } الأعراف 205، وقال تعالىفاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكراً } البقرة 200، فالشدة إنما يتصف به المعنى دون اللفظ، وقال تعالىواذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً } الكهف 24. وذيل هذه الآية تدل على الأمر برجاء ما هو أعلى منزلة مما هو فيه، فيؤل المعنى إلى أنك إذا تنزلت من مرتبة من ذكره إلى مرتبة هي دونها، وهو النسيان، فاذكر ربك وارج بذلك ما هو أقرب طريقاً وأعلى منزلة، فينتج أن الذكر القلبي ذو مراتب في نفسه، وبذلك يتبين صحة قول القائل إن الذكر حضور المعنى عند النفس، فإن الحضور ذو مراتب. ولو كان لقوله تعالى { فاذكروني } وهو فعل متعلق بياء المتكلم حقيقة من دون تجوز أفاد ذلك أن للإِنسان سنخاً آخر من العلم غير هذا العلم المعهود عندنا الذي هو حصول صورة المعلوم ومفهومه عند العالم، إذ كلما فرض من هذا القبيل فهو تحديد وتوصيف للمعلوم من العالم، وقد تقدست ساحته سبحانه عن توصيف الواصفين، قال تعالى

السابقالتالي
2 3