الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }

اعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى خمسة أنواع من التكاليف، وهي أمور ظاهرة جلية لا حاجة فيها إلى الفكر والاجتهاد، ثم ذكر تعالى في هذه الآية أربعة أنواع من التكاليف، وهي أمور خفية يحتاج المرء العاقل في معرفته بمقدارها إلى التفكر، والتأمل والاجتهاد. فالنوع الأولى: من التكاليف المذكورة في هذه الآية قوله: { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ }. واعلم أنه تعالى قال في سورة البقرة:وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَـٰمَىٰ قُلْ إصلاح لهم خير } [البقرة: 220] والمعنى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بأن يسعى في تنميته وتحصيل الربح به ورعاية وجوه الغبطة له، ثم إن كان القيم فقيراً محتاجاً أخذ بالمعروف، وإن كان غنياً فاحترز عنه كان أولى فقوله: { إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } معناه كمعنى قوله:وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ } [النساء: 6]. وأما قوله: { حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } فالمعنى احفظوا ماله حتى يبلغ أشده، فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه ماله. وأما معنى الأشد وتفسيره: قال الليث: الأشد مبلغ الرجل الحكمة والمعرفة. قال الفراء: الأشد. وأحدها شد في القياس، ولم أسمع لها بواحد. وقال أبو الهيثم: واحدة الأشد شدة كما أن واحدة الأنعم نعمة، والشدة: القوة والجلادة، والشديد الرجل القوي، وفسروا بلوغ الأشد في هذه الآية بالاحتلام بشرط أن يؤنس منه الرشد، وقد استقصينا في هذا الفصل في أول سورة النساء. والنوع الثاني: قوله تعالى: { وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ } اعلم أن كل شيء بلغ تمام الكمال، فقد وفى وتم. يقال: درهم واف، وكيل واف، وأوفيته حقه، ووفيته إذا أتممته، وأوفى الكيل إذا أتمه ولم ينقص منه شيئاً وقوله: { وَٱلْمِيزَانَ } أي الوزن بالميزان وقوله: { بِٱلْقِسْطِ } أي بالعدل لا بخس ولا نقصان. فإن قيل: إيفاء الكيل والميزان، هو عين القسط، فما الفائدة في هذا التكرير؟ قلنا: أمر الله المعطي بإيفاء ذي الحق حقه من غير نقصاه، وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة. واعلم أنه لما كان يجوز أن يتوهم الإنسان أنه يجب على التحقيق وذلك صعب شديد في العدل أتبعه الله تعالى بما يزيل هذا التشديد فقال: { لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } أي الواجب في إيفاء الكيل والوزن هذا القدر الممكن في إيفاء الكيل والوزن. أما التحقيق فغير واجب. قال القاضي: إذا كان تعالى قد خفف على المكلف هذا التخفيف مع أن ما هو التضييق مقدور له، فكيف يتوهم أنه تعالى يكلف الكافر الإيمان مع أنه لا قدرة له عليه؟ بل قالوا: يخلق الكفر فيه، ويريده منه، ويحكم به عليه، ويخلق فيه القدرة الموجبة لذلك الكفر، والداعية الموجبة له، ثم ينهاه عنه فهو تعالى لما لم يجوز ذلك القدر من التشديد والتضييق على العبد، وهو إيفاء الكيل والوزن على سبيل التحقيق، فكيف يجوز أن يضيف على العبد مثل هذا التضييق والتشديد؟ واعلم أنا نعارض القاضي وشيوخه في هذا الموضع بمسألة العلم ومسألة الداعي، وحينئذ ينقطع ولا يبقى لهذا الكلام رواء ولا رونق.

السابقالتالي
2