الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّابِرِينَ }

قوله تعالى: { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ }: هذه اللفظةُ قيل: مركبةٌ من كافِ التشبيه ومن " أيٍّ " ، وحَدَثَ فيه بعد التركيب معنى التكثيرِ المفهومُ من " كم " الخبرية، ومثلُها في التركيب وإفهامِ التكثير: " كذا " في قولِهم: " له عندي كذا كذا درهماً " والأصلُ: كاف التشبيه و " ذا " الذي هو اسمُ إشارةٍ، فلمَّا رُكِّبا حَدَثَ فيهما معنى التكثير، وكم الخبريةُ و " كأيِّن " و " كذا " كلُّها بمعنى واحد، وقد عَهِدْنا في التركيب إحداثَ معنى أخرَ، ألا تَرَى أنَّ " لولا " حَدَثَ لها معنىً جديد. وكأيِّن مِنْ حقِّها على هذا أَنْ يُوقَفَ عليها بغير نونٍ، لأنَّ التنوين يُحْذَفُ وقفاً، إلا أنَّ الصحابة كتبتها: " كأيِّن " بثبوتِ النونِ، فَمِنْ ثَمَّ وَقَفَ عليهما جمهورُ القراء بالنون إتباعاً لرسم المصحف. ووقف أبو عمرو وسَوْرة بن مبارك ـ عن الكسائي ـ عليها: " كأي " من غير نونٍ على القياس. واعتلَّ الفارسي لوقفِ النونِ بأشياءَ طَوَّل بها، منها: أنَّ الكلمة لَمَّا رُكِّبت خَرَجَتْ عن نظائِرها، فَجُعِل التنوينُ كأنه حرفُ أصلي من بنية الكلمة. وفيها لغاتٌ خمس. أحدها: كَأَيِّنْ " وهي الأصل، وبها قرأ الجماعة إلاَّ ابنَ كثير. وقال الشاعر:
1456ـ كَأَيِّنْ في المعاشِر من أُناسٍ     أخوهُمْ فوقَهم وهمُ كِرامُ
والثانية: " كائِنْ " بزنةِ " كاعِنْ " وبها قرأ ابن كثير وجماعةٌ، وهي أكثرُ استعمالاً من " كَأَيِّن " وإنْ كانت تلك الأصلَ. قال الشاعر:
1457ـ وكائن بالأباطحِ مِنْ صديقٍ     يَراني لو أُصِبْتُ هو المُصَابا
وقال:
1458ـ وكائِنْ رَدَدْنا عنكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ     ...........................
واختلفوا في توجيهِ هذه القراءة فنُقل عن المبرد أنها اسم فاعل من: كان يكون فهو كائن، واستبعده مكي قال: " لاتيانِ " مِنْ " بعده ولبنائِه على السكون ". وكذلك أبو البقاء قال: " وهو بعيدُ الصحة، لأنه لو كان كذلك لكان مُعْرباً، ولم يكن فيه معنى التكثير " لا يقال: هذا يُحْمَلُ على المبرد، فإنَّ هذا لازمٌ لهم أيضاً، فإنَّ البناءَ ومعنى التكثير عارضان أيضاً، لأنَّ التركيبَ عُهِد فيه مثلُ ذلك كما تقدم في " كذا " و " لولا " ونحوِهما، وأمَّا لفظٌ مفردٌ يُنقل إلى معنى ويُبْنى من غير سبب فلم يُوجَدْ له نظير. وقيل: هذه القراءةُ أصلُها " كأيِّنْ " كقراءة الجماعة إلا أنَّ الكلمةَ دخلها القلبُ فصارَتْ " كائِن " مثل " جاعِن ".

واختلفوا في تصييرها بالقلبِ كذلك على أربعةِ أوجهٍ، أحدُها: أنه قُدِّمت الياءُ المشددة على الهمزةِ فصار وزنُها كَعْلَف لأنك قَدَّمْتَ العينَ واللامَ وهما الياءُ المشددة، ثم حُذِفَتِ الياءُ الثانية لثِقَلِها بالحركة والتضعيف كما قالوا في " أيُّهما ": أيْهُما، ثم قُلِبت الياءُ الساكنة ألفاً كما قَلَبُوها في نحو: " آية " والأصل: أَيَّة، وكما قالوا: طائي، والأصل: طَيْئِي، فصارَ اللفظُ: كائِن كجاعِن كما ترى، ووزنُه " كَعْفٍ "؛ لأنَّ الفاءَ أُخِّرت إلى موضعِ اللامِ، واللامُ قد حُذِفَتْ.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7