الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً }

قوله: { مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ }: يجوزُ في " مِنْ " أَنْ تكونَ على بابِها من ابتداءِ الغاية، وأَنْ تكونَ للسببية. ويَدُلُّ قراءةُ عبدِ الله بنِ يزيد وعكرمة وقتادة " بالمُعْصِرات " بالباءِ بدلَ " مِنْ " وهذا على خلافٍ في " المُعْصِرات " ما المرادُ بها؟ فقيل: السحاب. يقال: أَعْصَرَتْ السَّحائِبُ، أي: شارَفَتْ أَنْ تُعْصِرَها الرياحُ فتُمْطِرَ كقولك: " أجَزَّ الزرعُ " إذا حان له أن يُجَزَّ. ومنه " أَعْصَرَتِ الجارِيَةُ " إذا حان لها أَنْ تحيضَ. قاله الزمخشريُّ. وأنشد ابنُ قتيبة لأبي النجم:
4466ـ تَمْشي الهُوَيْنَى ساقِطاً خِمارُها   قد أَعْصَرَتْ أو قَدْ دَنَا إعْصارُها
قلت: ولولا تأويلُ " أَعْصَرَتْ " بذلك لكان ينبغي أَنْ تكونَ المُعْصَرات بفتح الصادِ اسمَ مفعول؛ لأنَّ الرياحَ تُعْصِرُها.

وقال الزمخشري: " وقرأ عكرمةُ " بالمُعْصِرات ". وفيه وجهان: أَنْ يُراد الرياحُ التي حانَ لها أَنْ تُعْصِرَ السحابَ، وأَنْ يُرادَ السحائبُ؛ لأنَّه إذا كان الإِنزالُ منها فهو بها/ كما تقول: أَعْطى مِنْ يدِه درهماً، وأَعْطى بيدِه. وعن مجاهد: المُعْصِرات: الرياحُ ذواتُ الأعاصيرِ. وعن الحسن وقتادة: هي السماواتُ. وتأويلُه: أنَّ الماءَ يَنْزِلَ من السماءِ إلى السحاب فكأنَّ السماواتِ يَعْصِرْنَ، أي: يَحْمِلْنَ على العَصْر ويُمَكِّنَّ منه. فإنْ قلتَ: فما وَجْهُ مَنْ قرأ " من المُعْصِرات " وفسَّرها بالرياح ذواتِ الأعاصيرِ، والمطرُ لا يَنْزِلُ من الرياح؟ قلت: الرياحُ هي التي تُنْشِىءُ السحابَ وتَدِرُّ أخلافَه، فيَصِحُّ أَنْ تُجْعَلَ مَبْدأً للإِنزال. وقد جاء: إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الرياحَ فتحملُ الماءَ من السماء، فإنْ صَحَّ ذلك فالإِنْزالُ منها ظاهرٌ. فإنْ قلت: ذكر ابن كَيْسانَ: أنه جَعَلَ المُعْصِرات بمعنى المُغِيثات، والعاصِرُ هو المُغيث لا المُعْصِر. يقال: عَصَرَهُ فاعْتَصَرَ. قلت: وَجْهُه أَنْ يُرادَ: اللاتي أَعْصَرْن، أي: حان لها أَنْ تُعْصِرَ، أي: تُغيث ". قلت: يعني أنَّ " عَصَرَ " بمعنى الإِغاثةِ ثلاثيٌّ، فكيف قيل هنا: مُعْصِرات بهذا المعنى، وهو من الرُّباعي؟ فأجاب عنه بما تقدَّم، يعني أنَّ الهمزةَ بمعنى الدُّخولِ في الشيء.

قوله: { ثَجَّاجاً } الثَّجُّ: الانصِبابُ بكثرةٍ وشِدَّةٍ. وفي الحديث: " أحَبُّ العملِ إلى اللَّهِ العَجُّ والثَّجُّ " فالعَجُّ: رَفْعُ الصوتِ بالتلبيةِ، والثَّجُّ: إراقةُ دماءِ الهَدْيِ. يقال: ثَجَّ الماءُ بنفسِه، أي: انصَبَّ وثَجَجْتُه أنا، أي: صَبَبْتُه ثَجّاً وثُجوجاً، فيكونُ لازماً ومتعدياً. وقال الشاعر:
4467ـ إذا رَجَفَتْ فيها رَحَىً مُرْجَحِنَّةٌ   تَبَعَّجَّ ثَجَّاجاً غَزيرَ الحوافِلِ
وقرأ الأعرج " ثجَّاحاً " بالحاءِ المهملةِ أخيراً. وقال الزمخشري: " ومَثاجِحُ الماءِ مَصابُّه، والماءُ يَنْثَجِحُ في الوادي ".