الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }

قوله تعالى: { فَبِمَا نَقْضِهِم } تقدم الكلام على نظيره، وكذلكسَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } [النساء: 155]. وقرأ الجمهور: " قاسيةً " اسم فاعل من قسا يقسو، وقرأ الأَخَوان: - وهي قراءة عبد الله - " قَسِيَّةً " بفتح القاف وكسر السينِ وتشديدِ الياء. واختلفَ الناسُ في هذه القراءةِ: فقال الفارسي: " ليست في ألفاظِ العربِ في الأصل، وإنما هي كلمةٌ أعجميه معرَّبة " يعني أنها مأخوذةٌ من قولِهم: " دِرْهم قِسِيّ " أي: مَغْشُوش، شَبَّه قلوبَهم في كونِها غيرَ صافيةٍ من الكَدَر بالدارهم المغشوشةِ غير الخالصةِ، وأنشدوا قولَ أبي زبيد:
1711- لها صَواهِلُ في صُمِّ السِّلام كما   صاحَ القَسِيَّات في أَيْدي الصياريفِ
وقوله الآخر:
1712- وما زَوَّدوني غيرَ سَحْقِ عِمامةٍ   وخمسَ مِئٍ منها قِسِيُّ زائفُ
وقال صحاب الكشاف: " وقرأ عبد الله: " قَسِيَّة " أي: رديئة مغشوشة مِنْ قولِهم: " درهم قَسِيّ " وهو من القسوة؛ لأنَّ الذهبَ والفضة الخالصين فهيما لينٌ، والمغشوشُ فيه صلابةٌ ويُبس، والقسي والقاسح - بالحاءِ المهملة - أَخَوانِ في الدلالة على اليُبْس " وهذا القول سبقه إليه المبردُ فإنه قال: " يُسَمَّى الدرهمُ المغشوشُ قَسِيّاً لصلابته وشدتِه للغشِّ الذي فيه " ، وهو يَرْجِعُ للمعنى الأول، والقاسي والقاسح، بمعنى واحد، وعلى هذين القولين تكوت اللفظةُ عربية، وقيل: بل هذه القراءة توافِقُ قراءةُ الجماعة في المعنى والاشتقاق، لأنه فعيل للمبالغة كشاهد وشهيد فكذلك قاسٍ وقسِيّ، وإنما أُنِّث على معنى الجماعةِ. وقرأ الهَيْصم بن شداخ: " قُسِيَّة " بضم القاف وتشديد الياء. وقرئ " قِسَّية " بكسر القاف إتباعاً، وأصل القراءتين: قاسِوَة وقَسِيوة لأنَّ الاشتقاق من القسوة.

قوله: { يُحَرِّفُونَ } في هذه الجملة أربعة أوجه، أنها مستأنفة بيانٌ لقسوة قلوبهم، لأنه لا قسوةَ أعظمُ من الافتراء على الله تعالى. والثاني: أنها حال من مفعول " لعنَّاهم " أي: لعنَّاهم حالَ اتصافهم بالتحريف. والثالث: - قال أبو البقاء - أنه حال من الضمير المستتر في " قاسية " ، وقال: " ولا يجوزُ أن يكون حالاً من القلوب، لأن الضمير في " يُحَرِّفون " لا يرجع إلى القلوب " وهذا الذي قاله فيه نظر، لأنه من حيث جَوَّز أن يكونَ حالاً من الضمير في " قاسية " يلزَمُه أن يُجَوِّز أن يكون حالاً من " القلوب " لأنَّ الضميرَ المسترر في " قاسية " يعودُ على القلوب، فكما يمتنع أن يكونَ حالاً مِنْ ظاهره، يمتنع أن يكونَ حالاً من ضميرِه، وكأن المانع الذي توهَّمه كونُ الضمير - وهو الواو في " يُحَرِّفون - إنما يعود على اليهود بجملتِهم لا على قلوبهم خاصةً، فإنَّ القلوبَ لا تُحَرِّف، إنما يحرِّف أصحاب القلوب، وهذا لازمٌ له في تجويزه الحاليةَ من الضمير في " قاسية ".

السابقالتالي
2