الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } * { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفاً وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً }

ولما أبدى جزاء المسيء تحذيراً، أولاه أجر المحسن تبشيراً فقال: { ومن يعمل } وخفف تعالى عن عباده بقوله: { من الصالحات } ولما عمم بذكر (من) صرح بما اقتضته في قوله: { من ذكر وأنثى } وقيد ذلك بقوله: { وهو } أي والحال أنه { مؤمن } ليكون بناؤه الأعمال على أساس الإيمان { فأولئك } أي العالو الرتبة، وبنى فعل الدخول للمفعول في قراءة ابن كثير وأبي عمروا وأبي جعفر وأبي بكر عن عاصم وروح عن يعقوب، وللفاعل في قراءة غيرهم، لأن المقصود نفس الفعل، لا كونه من فاعل معين؛ وإن كانت قراءة الأولين أكثر فائدة { يدخلون } أي يدخلهم الله { الجنة } أي الموصوفة { ولا يظلمون } وبنى الفعل للمجهول، لأن المقصود الخلاص منه لا بقيد فاعل معين { نقيراً * } أي لا يظلم الله المطيع منهم بنقص شيء ما، ولا العاصي بزيادة شيء ما، والنقير: ما في ظهر النواة من تلك الوقبة الصغيرة جداً، كني بها عن العدم، وهذا على ما يتعارفه الناس وإلا فالله تعالى له أن يفعل ما يشاء، فإن مِلكه ومُلكه عام، لا يتصور منه ظلم كيف ما فعل.

ولما كشف سبحانه زورهم وبيَّن فجورهم، أنكر أن يكون أحد أحسن ديناً ممن اتبع ملة إبراهيم الذي يزعمون أنه كان على دينهم زعماًَ تقدم كشف عواره وهتك أستاره في آل عمران، فقال عاطفاً على ما تقديره: فمن أحسن دائناً ومجازياً وحاكماً منه سبحانه وتعالى: { ومن أحسن ديناً } أو يكون التقدير: لأنهم أحسنوا في دينهم ومن أحسن ديناً منهم! لكنه أظهر الوصف تعميماً وتعليقاً للحكم به وتعليماً لما يفعل يفعل المؤمن وحثاً عليه فقال: { ممن أسلم } أي أعطى.

ولما كان المراد الإخلاص الذي هو أشرف الأشياء، عبر عنه بالوجه الذي هو أشرف الأعضاء فقال: { وجهه } أي قياده، أي الجهة التي يتوجه إليها بوجهه, أي قصده كله الملازم للإسلام نفسه كلها { لله } فلا حركة له سكنة إلا فيما يرضاه، لكونه الواحد الذي لا مثل له، فهو حصر بغير صيغة الحصر، فأفاد فساد طريق من لفت وجهه نحو سواه باستعانة أو غيرها ولا سيما المعتزلة الذين يرون الطاعة من أنفسهم، ويرون أنها موجبة لثوابهم، والمعصية كذلك وأنها موجبة لعقابهم، في الحقيقة لا يرجون إلا أنفسهم، ولا يخافون غيرها؛ وأهل السنة فوّضوا التدبير والتكوين والخلق إلى الحق، فهم المسلمون.

ولما عبر تعالى عن كمال الاعتقاد بالماضي، شرط فيه الدوام والأعمال الظاهرة بقوله: { وهو } أي والحال أنه { محسن } أي مؤمن مراقب، لا غفلة عنده أصلاً، بل الإحسان صفة له راسخة، لأنه يعبد الله كأنه يراه، فقد اشتملت هذه الكلمات العشر على الدين كله أصلاً وفرعاً مع الترغيب بالمدح الكامل لمتبعه وإفهام الذم الكامل لغيره.

السابقالتالي
2