الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ }

لما كملت الحجج نهوضاً على أهل الكتابين ومشركي العرب في عميق ضلالهم بإعراضهم عن الإسلام، وتبين سوء نواياهم التي حالت دون الاهتداء بهديه والانتفاع بفضله، وسجل ذلك على زعماء المعاندين أعني اليهود ابتداء بقولهيا بني إسرائيل } البقرة 40 مرتين، وأدمج معهم النصارى استطراداً مقصوداً، ثم أنصف المنصفون منهم الذين يتلون الكتاب حق تلاوته، انتقل إلى توجيه التوبيخ والتذكير إلى العرب الذين يزعمون أنهم أفضل ذرية إبراهيم وأنهم يتعلقون بملته، وأنهم زرع إسماعيل وسدنة البيت الذي بناه، وكانوا قد وُخزوا بجانب من التعريض في خلال المحاورات التي جرت مع أهل الكتاب للصفة التي جمعتهم وإياهم من حسد النبي والمسلمين على ما أنزل عليهم من خير، ومن قولهم ليس المسلمون على شيء، ومن قولهماتخذ الله ولداً } البقرة 116، ومن قولهملولا يكلمنا الله } البقرة 118. فلما أخذ اليهود والنصارى حظهم من الإنذار والموعظة كاملاً فيما اختصوا به، وأخذوا مع المشركين حظهم من ذلك فيما اشتركوا فيه تهيأ المقام للتوجه إلى مشركي العرب لإعطائهم حظهم من الموعظة كاملاً فيما اختصوا به، فمناسبة ذكر فضائل إبراهيم ومنزلته عند ربه ودعوته لعقبه عقب ذكر أحوال بني إسرائيل، هي الاتحاد في المقصد، فإن المقصود من تذكير بني إسرائيل بالنعم والتخويف، تحريضهم على الإنصاف في تلقي الدعوة الإسلامية والتجرد من المكابرة والحسد وترك الحظوظ الدنيوية لنيل السعادة الأخروية. والمقصود من ذكر قصة إبراهيم موعظة المشركين ابتداء وبني إسرائيل تبعاً له، لأن العرب أشد اختصاصاً بإبراهيم من حيث إنهم يزيدون على نسبهم إليه بكونهم حفظة حرمه، ومنتمين قديماً للحنيفية ولم يطرأ عليهم دين يخالف الحنيفية بخلاف أهل الكتابين. فحقيق أن نجعل قوله { وإذ ابتلى } عطفاً على قوله تعالىوإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } البقرة 30 كما دل عليه افتتاحه بإذ على نحو افتتاح ذكر خلق آدم بقوله { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } فإن الأول تذكير بنعمة الخلق الأول وقد وقع عقب التعجب من كفر المشركين بالخالق في قولهكيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } البقرة 28، عقبت تلك التذكرة بإنذار من يكفر بآيات الله من ذرية آدم بقولهفإما يأتينكم مني هدى } البقرة 38 الآية، ثم خص من بين ذرية آدم بنو إسرائيل الذين عُهد إليهم على لسان موسى عهد الإيمان وتصديق الرسول الذي يجيء مصدقاً لما معهم، لأنهم صاروا بمنزلة الشهداء على ذرية آدم. فتهيأ المقام لتذكير الفريقين بأبيهم الأقرب وهو إبراهيم أي وجه يكون المقصود بالخطاب فيه ابتداء العرب، ويضم الفريق الآخر معهم في قرن، ولذلك كان معظم الثناء على إبراهيم بذكر بناء البيت الحرام وما تبعه إلى أن ذكرت القبلة وسط ذلك، ثم طوي بالانتقال إلى ذكر سلف بني إسرائيل بقوله

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7